اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة التتار سقوط سوريا للشيخ : راغب السرجاني
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه هي المحاضرة السادسة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
في المحاضرة السابقة تعرضنا للكارثة الكبرى التي أصابت المسلمين وهي احتلال العراق وسقوط بغداد، وقتل مليون مسلم في بغداد، وتعرضنا لاستباحة كل شيء في هذه المدينة العظيمة، وتدمير المخزون الثقافي والحضاري الهائل في مكتبة بغداد، وكان واضحاً من خطوات التتار ومن رد فعل المسلمين أن احتلال العراق لن يكون أبداً المحطة الأخيرة للتتار في بلاد المسلمين، وإنما ستعقبه ولا شك أطماع جديدة، وأحلام توسعية كبيرة جداً في أراضي المسلمين.
بعد تدمير العراق انسحب هولاكو من بغداد إلى همذان بفارس، ثم توجه إلى قلعة تسمى: قلعة شاها على شاطئ بحيرة أرمية، وبحيرة أرمية في الشمال الغربي لإيران، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين، ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال.. وغيرهم.
وترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، لا شك أن الخطوة القادمة ستكون سوريا، فبدأ يدرس الموقف في هذا المنطقة، وبينما هو يقوم بهذه الدراسة ويحدد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار، وتطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع الصديق الجديد، رجل الحرب والسلام هولاكو ، ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو، فالفجوة هائلة بينهم وبين هولاكو ، والأفضل في اعتباراتهم أن يفوزوا بأي شيء، وهذا أحسن من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه ويأمنون شره.
يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا [النساء:72]، فقد فرح هؤلاء الأمراء بعدم الاشتراك في الدفاع عن بغداد وعن العراق؛ لأن بغداد سقطت، وهكذا هم مع المنتصر، يسارعون إليه أياً كان.
وقد كان هؤلاء الأمراء يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء، الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب، وقد كان لهم خطب قوية نارية حماسية، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، وقد كان هناك كثير من العلماء الأصوليين يؤيدون خطوات الأمراء، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباع هؤلاء الأمراء، والرضا بأفعالهم مهما كانت، ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة، ويقولون لهم: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية المشركين، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟ ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟ وهكذا.
ثم يقولون: إن التتار جنحوا للسلام، والله عز وجل يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال:61] فالتتار جنحوا للسلم معنا، ويريدون أن يقيموا معنا معاهدات وأحلافاً، أفتريدون أن نقع في مخالفة شرعية ولا نسمع لكلام ربنا؟! وهل تريدون سفك الدماء وتخريب الديار وتدمير الاقتصاد؟!
إن الحكمة كل الحكمة ما فعله أميرنا من التصالح والتعاهد والتحالف مع التتار، ولنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
ذهب هؤلاء الأمراء إلى هولاكو وقلوبهم تدق وأنفاسهم تتسارع، وهم يتساءلون: هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟ جاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع الصديق هولاكو ، فقد جاء الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير كيكاوس الثاني ، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول وسط وغرب تركيا، والأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص، والأمير الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أمير حلب ودمشق، وكان هؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا، وهذا يحل مشاكل كثيرة جداً أمام هولاكو ؛ لأن أبواب المسلمين الآن ستفتح دون قتال.
وهذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظاً بمروءته وكرامته ودينه، هو الأمير الكامل محمد الأيوبي رحمه الله أمير منطقة ميافارقين وهي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة وان، وجيوش الكامل محمد رحمه الله كانت تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، فهذا الرجل كان يسيطر على شرق تركيا، وعلى الشمال الغربي من العراق، والشمال الشرقي من سوريا.
كان هولاكو يريد احتلال سوريا، فكان عليه أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد رحمه الله، وأن يمر في شمال العراق، وعلى الرغم من خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، إلا أن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح أمراً لازماً، ومدينة ميافارقين حصينة جداً، وتقع بين سلسلة جبال الأسود، واحتلالها صعب جداً، وكان هولاكو لا يريد أن يدع أي شيء للمفاجآت، فحتى يخرج من هذا المأزق بدأ بالطرق السهلة وغير المكلفة، فحاول إرهاب الكامل وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد الطائشة، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، والدخول فيما دخل فيه غيره، فكل الأمراء الذين حوله قد استسلموا، وهو المعارض الوحيد؛ وقد كان هولاكو في منتهى الذكاء في اختيار الرسول، فلم يرسل رسولاً تترياً، وإنما أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه قسيس يعقوبي، فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وأن ينقل إليه أخبار هولاكو وقوته وبأسه، ثم هو من ناحية أخرى نصراني فيلفت بذلك نظر الكامل محمد إلى أن النصارى متعاونون مع التتار، وهذا الأمر خطير بالنسبة للكامل محمد جداً، وله بعد إستراتيجي في منتهى الأهمية؛ لأن إمارة ميافارقين الواقعة في شرق تركيا يحدها شرقاً مملكة أرمينيا النصرانية، وهي متحالفة مع التتار، ويحدها من الشمال الشرقي مملكة الكرج النصرانية، وهي أيضاً متحالفة مع التتار، فإذا ما اعترض الكامل محمد رحمه الله على هولاكو فإنه سيصبح كالجزيرة المحصورة في خضم هائل من المنافقين والمشركين والنصارى، وسيحاصر من كل الجهات، فمن الشرق سيحاصر بمملكة أرمينيا النصرانية، ومن الشمال الشرقي بمملكة الكرج النصرانية، التي هي جورجيا الآن، ومن الجنوب الشرقي بإمارة الموصل العميلة للتتار، فالجانب الشرقي كله محاط بعملاء وبنصارى، وفي الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار أيضاً، ففي وسط وغرب تركيا كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ، وهما عميلان للتتار، ومن الجنوب الغربي إمارة حلب الخاضعة للناصر يوسف الأيوبي ، وهي عملية للتتار أيضاً، فلا يوجد أي منفذ للكامل محمد من أي طريق، سواءً من بلاد المسلمين أو من بلاد النصارى، وفوق كل هذا فجيش التتار سيأتي لمحاصرة المنطقة، فالموقف في منتهى الخطورة.
ولكن الكامل محمد رحمه الله أمسك الرسول النصراني قسيس يعقوبي وقتله، وقد كانت الأعراف تقضي ألا يقتل الرسل، ولكن الكامل محمد قام بذلك؛ ليكون إعلاناً رسمياً للحرب على هولاكو ، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين؛ انتقاماً من ذبح مليون مسلم منذ أيام؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافاً في حياتهم، وكان قتل قسيس يعقوبي رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو ، فأدرك هولاكو فوراً أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد تماماً، فاهتم هولاكو جداً بهذا الموضوع، فهذا أول صحوة في المنطقة، ولم يضيع الوقت، بل جهز بسرعة جيشاً كبيراً جداً، ووضع على رأسه ابنه أشموط بن هولاكو مباشرة، فتوجه الجيش التتاري إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل بدر الدين لؤلؤ أرضه للمرور، فحاصر جيش التتار ميافارقين حصاراً شديداً، وكما هو متوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان بداية الحصار الشرس في شهر رجب سنة (656 هـ)، أي: بعد حوالي أربعة أشهر من تدمير بغداد، فصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد، فقد كان كريماً في زمان اللئام، وشجاعاً حقاً في زمان الجبناء، وفاهماً جداً في زمان لا يعيش فيه إلا الأغبياء، بل أغبياء الأغبياء.
وكان من المفروض في هذا الحصار البشع الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها، ولكن هذا لم يحدث، فلم تتسرب إليها أي أسلحة أو أطعمة أو أدوية، فقد احترم الأمراء المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوة الأولى في العالم: التتار، على إخوانهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين في ميافارقين.
أولاً: لم تكن الشعوب تختلف كثيراً عن حكامها، فقد كانت تحب الحياة، أي حياة وبأي صورة.
ثانياً: كانت هناك عمليات غسيل مخ مستمرة لكل شعوب المنطقة، فالحكام والوزراء وعلماء الحكام، كانوا يقنعون الناس بحسن سياسة الحكام وحكمة إدارتهم، ولا شك أن هؤلاء الحكام أيضاً كانوا يلومون الكامل محمد على تهوره ودفاعه عن كرامته ودينه وكرامة شعبه، بل وعن كرامة المسلمين جميعاً، ولا شك أنهم كانوا يقولون مثلاً: أما آن للكامل محمد أن يتنحى ليجنب شعبه ويلات الحروب ودمارها؟ ومنهم من يقول: لو سلم الكامل محمد أسلحته لانتهت المشكلة، ولكنه يخفي أسلحته عن عيون الدولة الأولى في الأرض التتار، وهذا خطأ يستحق إبادة شعب ميافارقين بكامله.
ولا شك أن هولاكو كان يرسل برسائل يقول فيها: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة ميافارقين إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، وأما شعب ميافارقين فليس بينه وبينهم عداء، ونريد أن نتعايش سلمياً إلى جوار بعضنا البعض، وعمليات غسيل المخ المستمرة تهدئ من حماسة الشعوب، وتقتل المروءة والنخوة.
ثالثاً: من لم تقنعه الكلمات والخطب والحجج والبراهين، فالإقناع له يكون بالسيف، وقد تعودت الشعوب في هذه المناطق على القهر والبطش والظلم من الولاة، وتعودوا على الكراهية المتبادلة بين الحكام والمحكومين، وعلى الظلم.
في ظل هذه الملابسات المخزية والأوضاع المقلوبة نستطيع أن نفهم كيف تم حصار إمارة ميافارقين، وتعرض شعبها المسلم للموت أحياء، ولم يتحرك لها حاكم ولا شعب من الإمارات الإسلامية المجاورة جداً لها.
طلب الأمير الكامل محمد رحمه الله من الناصر يوسف الأيوبي إمداده، بالغذاء والسلاح والأدوية الكافية لشعب ميافارقين، فقد تضرروا من الحصار، ولكن الناصر يوسف الأيوبي رفض رفضاً قاطعاً صريحاً، ولم يتردد أو يفكر، فقد باع كل شيء واشترى ود التتار، وما علم وقت أن فعل ذلك أن التتار لا عهد لهم ولا أمان، حتى لو صدق التتار في عهودهم أيبيع المسلمين للتتار ولو بكنوز الدنيا؟! ولكنه هكذا فعل.
في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر! ولم ينس الناصر يوسف أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة إلى صديقه الجديد هولاكو ، ولكن وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، وعلى نفسها جنت براقش. فقد استكبر هولاكو أن يرسل الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فكل الأمراء جاءوا بأنفسهم إلا هو، وأيضاً فقد رأى هولاكو أن هناك مشكلة كبيرة جداً: فكيف يطلب مساعدة هولاكو في فتح مصر للناصر فـهولاكو يريد كل شيء له، فلاحظ أن الناصر يوسف بدأ يرى نفسه، وهولاكو لا يريد أحداً مطلقاً إلى جواره.
أين النجاة ولا مناص لهارب ولي البسيطان الندى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضة الأمراء والوزراء
وانتهت الرسالة التترية المرعبة، فسقط قلب الناصر يوسف بين قدميه، فقد وضحت نوايا هولاكو ، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل، ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه، وذكره بمصير الخليفة العباسي البائس، فهل يسلم كل شيء لـهولاكو ؟ فماذا يبقى له بعد هذا؟ فحب المال والسلطان يجري في دم الناصر يوسف ، وهو ما والى ملك التتار إلا ليظل ملكاً، ولكن الآن هولاكو يقول له: لا، تعال وأنا الذي سأقسّم التركة، وسأقسم الدنيا كلها، ولو لم تأت سينالك ما نال الخليفة العباسي قبل ذلك، فلو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فلماذا يعيش؟
ورفع الناصر يوسف راية بلاده، وكتب عليها: الله أكبر، وبدأ يحمس شعبه على الجهاد في سبيل الله -أقصد في سبيل الكرسي- ، وهو الذي راسل لويس التاسع ملك فرنسا قبل ذلك ليساعده في حرب مصر على أن يعطيه بيت المقدس، وهو الذي أيد دخول التتار إلى بغداد، وهنأ هولاكو على نصره العظيم، وتخلى عن الكامل محمد الأيوبي أمير ميافارقين، ولم يمده حتى بالطعام، وقد كان قبل قليل يطلب من هولاكو أن يساعده على غزو مصر، فـالناصر يوسف بكل هذا التاريخ الفاضح يعلن الجهاد، وهذه مهزلة، فـالناصر يوسف كان يتاجر بعواطف شعبه، وقد ظهر سوء خلقه وفساد عقيدته وانعدام رؤيته للناس أجمعين، فكان من الحماقة أن يعتقد بعض المسلمين أن الله عز وجل سينصر الإسلام على يده، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]. فبعض المتحمسين استجابوا للناصر يوسف وجاءوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، ولكن استقراء التاريخ والواقع يشير إلى أنه حتماً ولا بد سيفر إذا جاء اللقاء، ولن يمكث في أرض المعركة إلا قليلاً، بل قد يهرب قبل بدء القتال أصلاً؛ وساعتها ينصدم هؤلاء الناس المتحمسون، ويشعرون بالإحباط الشديد، ولذا كان عليهم أن يراجعوا أنفسهم، فخطؤهم الأكبر ليس الإحباط بعد فرار الزعيم، وإنما هو اعتقاد أن الناصر يوسف وأمثاله يستطيعون حمل راية الجهاد الثقيلة جداً.
فإذا سمعتم دعوة الجهاد فانظروا من ينادي بها، فهذه العبادة هي ذروة سنام الإسلام، ولا ينادي بها حقاً إلا أعاظم الرجال.
أعلن الناصر يوسف دعوة الجهاد، وضرب معسكره التابع له في شمال دمشق عند قرية اسمها قرية برزة، مع أنه من المفروض أن يضرب المعسكر التابع له عند حلب؛ لأنها لم تسقط بعد، وهي بجانب ميافارقين، وإذا انتهى هولاكو منها فإنه سيأتي على حلب، ولكنه عسكر بعيداً جداً، حتى إذا سقطت حلب هرب هو من دمشق، فدمشق على بعد (300) كيلو متر من حلب، فهي مسافة كافية جداً للهرب.
بدأ الناصر يوسف يعد العدة ويراسل الأمراء من حوله؛ لينظموا إليه لقتال التتار، فراسل المغيث فتح الدين عمر أمير إمارة الكرك، والكرك شرق البحر الميت وهو الآن في الأردن، وقد كانت إمارة مستقلة، ولم يكن هذا الرجل إلا مغيثاً لنفسه فقط، ولم يكن فتحاً للدين بأي صورة من الصور، ولم يكن شبيهاً بـعمر بأي حال من الأحوال، وإنما كانت أسماؤهم عظيمة في ذلك الزمان وكان رجلاً كـالناصر يوسف يحارب التتار تارة ويطلب عونهم تارة، ويحارب الصليبيين تارة ويطلب عونهم تارة، بحسب الظروف والأحوال.
ثم راسل الناصر يوسف أميراً لم يتخيل أحد أبداً أن يراسله، راسل أمير مصر يطلب معونته في حرب التتار، وقد كان يطلب من التتار معاونتهم في فتح مصر، والآن يستعين بأمير مصر في حرب التتار، وهذا ليس في مبدأ ولا قاعدة أصل، وإنما هي المصلحة ويكفي، فهذا هو القانون الذي كان يحكم حياته بكاملها.
أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوة، ولا شك أن هولاكو بحاجة إلى أن يعمق هذه العلاقة بصورة أكبر؛ لمواجهة النماذج الإسلامية المعارضة التي ظهرت مثل: الكامل محمد أو غيره ممن سيظهر بعد هذا، وهنا سيحتاج التتار إلى قوة النصارى للمساعدة في إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة أمور الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة، لأجل هذا أراد التتار أن يشتروا ود النصارى إلى آخر درجة، فأغدق هولاكو بالهدايا والمكافآت على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكرج، وكذلك على بوهمند أمير أنطاكية.
النقطة الثانية: الحصار ما زال مضروباً على ميافارقين بقيادة أشموط بن هولاكو ، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد إلا أن الحصار كان شديد الإحكام، ويشترك فيه قوات أرمينيا والكرج، ولم يحاول أي أمير مسلم المساعدة في فك هذا الحصار، وهولاكو مطمئن نسبياً إلى حصار ميافارقين.
النقطة الثالثة: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكراً جهادياً شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، وهذا الإعداد لم يقابل بأي اهتمام من هولاكو ، فهو يعرف الناصر وإمكانياته ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبياً بالنسبة لـهولاكو .
النقطة الرابعة: منطقة العراق الأوسط وأهمهما مدينة بغداد أعلنت تسليمها بالكامل للتتار، وأصبحت آمنة تماماً، وكذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، فالشمال الشرقي من العراق أيضاً أصبح آمناً تماماً.
النقطة الخامسة والأخيرة: إن أقوى المدن الآن في الشام هي مدينة حلب ودمشق، ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد (300) كيلو متر تقريباً.
فقرر هولاكو أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى المدينتين: حلب، أو دمشق، وأدرك هولاكو أنه لو أراد أن يتوجه إلى حلب، فإن عليه أن يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا، موازياً لحدود تركيا حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق كثيرة الأنهار، وفيها معوقات كثيرة طبيعية، وبالذات في مناورات الجيوش الضخمة، ففيها نهر دجلة والفرات، وفي نفس الوقت فهذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع والمياه، يعني: أن الجيش سيمشي فيها وهو مطمئن إلى وفرة الغذاء والماء، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط أي مساعدة فسيكون جيش التتار الرئيسي بجنبه، فاحتلال مدينة حلب يحمل بعض المزايا، وهي أن الطريق إليها فيه الغذاء والماء، وهي قريبة من ميافارقين، ويمر في مناطق آمنة، فهو يمر في أرض أمير الموصل الموالي للتتار، وسيدخل بعد هذا على شمال سوريا وليس فيها الناصر يوسف ، فهو معسكر في الجنوب في دمشق. هذا الاختيار الأول.
وإذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا سيمثل عنصر مفاجئة رهيبة للمسلمين في دمشق؛ لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون، فهم يتوقعون مجيئه من الشمال من ناحية حلب، فلو جاء من الشرق من ناحية الصحراء فمن الصعب جداً على أهل دمشق أن يتخيلوا مثل هذه المفاجأة، ويستطيع بهذا هولاكو أن يصل إلى الناصر يوسف في عقر داره مباشرة، ولا يتيح له فرصة للفرار، ولكن هنا مشكلة كبيرة جداً، فحتى يفعل ذلك هولاكو فإن عليه أن يخترق صحراء السماوة، التي تسمى: بادية الشام، والتي تمتد من بغداد إلى دمشق، وهي صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة، مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، ولقابل القوة الرئيسية للمسلمين، وبذلك يسقط الشام بكامله.
المهم وباستقراء الأمور جميعاً قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب، على أن يبقى ابنه أشموط محاصراً لميافارقين، وبدأ جيش التتار الجرار في التحرك من قواعده في همذان إلى سوريا؛ فاجتاز الجبال الواقعة في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، وتجاوز مدينة أربيل ثم مدينة الموصل الموالية له، وعبر نهر دجلة، وكان نهر دجلة هو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خطير جداً، ولكن هذه المنطقة كانت آمنة تماماً، فعبر الجيش التتري الكبير هذا النهر دون أن تواجهه أي مشاكل في العبور، وسار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة، ليصل إلى مدينة نصيبين في جنوب تركيا، وهي على حوالي سبعين كيلو متر جنوب ميافرقين، وبذلك اقترب جداً من جيش أشموط إلا أنه لم يذهب إليه؛ لأنه كان مطمئناً لقوته.
احتل هولاكو مدينة نصيبين دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غرباً ليحتل مدينة حران، ثم مدينة الرها، ثم مدينة البيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، بلاد كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ، ولم يستطع أحدهما الاعتراض، وعند مدينة البيرة عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبهذا يكون قد مر من العائق المائي الثاني في المنطقة دون أي مشاكل تذكر، وهكذا قرب جداً من الحدود التركية السورية، وتوجه مباشرة إلى مدينة حلب الحصينة، وبينها وبين الحدود التركية حوالي (50) كيلو متر فقط.
واستمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية أولاً، ثم الأراضي العراقية، ثم التركية، ثم السورية مدة عام (657هـ) كاملاً، وهو العام الذي تلا إسقاط بغداد مباشرة.
وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي ، وهو غير توران شاه التابع لمصر، فهذا سيأتي ذكره إن شاء الله في الدرس القادم، وكان توران شاه هذا شيخاً كبيراً، ولكنه كان مجاهداً بحق، وليس كابن أخيه.
نصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب، وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة، ولم يفكر أبداً الناصر يوسف في إرسال أي مساعدة لأهل حلب، مع أنها كانت من أهم المدن التي يملكها الناصر يوسف.
فاستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فقيده وصلبه، ثم بدأ يقطع أطرافه وهو حي رحمه الله، ثم أجبره على أن يأكل لحمه، فكان يدس لحمه في فمه رغماً عن أنفه، فكان يقطع من جسمه ويضعه في فمه، وظل على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].
قتل الكامل محمد الذي قاوم كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم دون مقاومة، ولكن شتان بين من مات رافعاً رأسه ممسكاً بسيفه، ومن مات ذليلاً منكسراً مطأطأ رأسه رافعاً يده بالتسليم، وشتان بين من مات بسهم في صدره مقبلاً، ومن مات بسهم في ظهره مدبراً.
والكامل محمد رحمه الله مات في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك مات المستعصم بالله في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك سيموت الناصر يوسف الأيوبي الذي خان الأمة بكل أنواع الخيانة في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لن يتأخر أو يتقدم لحظة، ولن يطيل الجبن عمراً، ولن تقصره الشجاعة، ولكن أين اليقين؟
استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي ، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم كبير جداً من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه ووضعه على رمح، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون رعباً لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، وعلِّقَت رأسه فترةً على أحد أبواب دمشق وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عرف بعد ذلك بمسجد الرأس.
ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.
واستمر الحصار التتري لمدينة حلب سبعة أيام فقط، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة كعادة التتار، ولكن زعيمهم توران شاه قال لهم: إن هذه خدعة، التتار لا أمان لهم ولا عهد، ولكن الشعب الحلبي كان قد أصيب بالإحباط الشديد من كل شيء، من سقوط ميافارقين، وعدم مساعدة أميرهم الناصر يوسف لهم وتركهم دون مساعدة، وجلوسه على بعد (300) كيلو متر هو والجيش الأصلي الذي كان مفروضاً عليه الدفاع عن حلب، ولم تساعدهم أي مدينة مجاورة لهم، وهم خذلوا قبل ذلك ميافارقين، كما تدين تدان. فهذا الإحباط قاد الشعب إلى الرغبة في التسليم، واتجه عامتهم إلى فتح الأبواب لـهولاكو ، لكن قائدهم توران شاه وبعض المجاهدين رفضوا، واعتصموا بالقلعة داخل المدينة.
انهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، وما إن سيطروا على محاور حلب حتى ظهرت النوايا الخبيثة، ووضح لشعب حلب ما كان واضحاً من قبل لمجاهدهم البطل توران شاه ، ولكن للأسف كان هذا الإدراك متأخراً جداً، فقد أصدر هولاكو أمراً واضحاً بقتل المسلمين في حلب وترك النصارى، وهذه ولاشك خيانة متوقعة، والخطأ هو خطأ الشعب الذي بنى قصوراً من الرمال على الرمال، وهكذا بدأت المذابح البشعة في رجال ونساء وأطفال حلب، وتم تدمير المدينة تماماً.
وهنا يقول بعض المستشرقين والعلمانيين الذين يحللون الموقف: إن هولاكو قد فعل ذلك إعجاباً بشجاعة الشيخ الكبير توران شاه ، وأن هذه فروسية ونبل من الفاتح هولاكو . فبعد كل الذي فعله هولاكو لا زال هناك من يعتقد أنه نبيل، وأنه فارس! وهذه صفات لا تتناسب مطلقاً مع وصف هولاكو ، فليس هولاكو بالذي يُعجب بمن يقاومه، ولا يتصف بنبل أو فروسية، وهو لم يبق على حياته إلا لأغراض أخرى خبيثة، فهذا العفو من ناحية هو عمل سياسي ماكر، يريد به ألا يثير حفيظة الأيوبيين المنتشرين في كل بلاد الشام، وبالذات أنه قتل منذ أيام الكامل محمد الأيوبي ، فإذا تتبع قوادهم بالقتل فهذا قد يؤدي إلى إثارتهم، وكثير منهم يحالفونه، ومنهم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو لا يريد أن يقلب عليه الأوضاع في الشام.
ومن ناحية أخرى فهو يريد أن يفتح الباب للأمراء المسلمين أن يسلموا أنفسهم إليه دون مقاومة، فكما هو واضح من هذا الفعل أنه رجل وديع ولطيف جداً، ومسالم ونبيل وفارس، يحافظ على القواد الذين يقاومونه، فما بالكم بمن دخل في حلفه!
ثم من ناحية ثالثة فإن توران شاه عم الناصر يوسف حاكم دمشق الخائن، والإمساك بـتوران شاه دون قتله قد يكون وسيلة من وسائل المساومة المستقبلية مع الناصر يوسف .
وهذه الدوافع وما على شاكلتها يناسب طبيعة هولاكو الدموية، أما أن يقال: إن هولاكو تأثر بأخلاق وفروسية توران شاه فأصبح هو الآخر أخلاقياً وفارساً، فهذا ما لا يُتوقع من مثله أبداً!
بعد إسقاط مدينة حلب اتجه هولاكو إلى الغرب، وذهب إلى حصن حارم المسلم والذي يقع على بعد حوالي (50) كيلو متر من حلب، وحاصره ثم اقتحمه وذبح كل من فيه.
وبدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات والجميع يستمعون:
أولاً: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب؛ وذلك تقديراً لمساعدات الجيش الأرمني في إسقاط بغداد، ثم ميافارقين، ثم حلب.
ثانياً: على سلطانَيْ السلاجقة كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وهذا لتوسيع ملك الملك الأرميني على حساب البلاد المسلمة، ولم توجد فرصة واردة للاعتراض عند السلطانين المسلمين، وبالفعل سلما المدن إلى ملك أرمينيا.
ثالثاً: يكافأ بوهمند أمير أنطاكية على تأييده لـهولاكو ، فأعطاه مدينة اللاذقية المسلمة، وكانت قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ثم أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى.
وقرار إعطاء مدن السلاجقة إلى الملك الأرمني، وإعطاء مدينة اللاذقية إلى بوهمند أمير أنطاكية تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة المعروفة: وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق.
القرار الرابع وقد كان قراراً غريباً جداً من هولاكو ، ولم يكن في مصلحة أمير أنطاكية، بل كان ضده وضد ملك أرمينيا، وكان هذا القرار لإثبات أن كل شيء الآن قد أصبح بيد السيد الجديد هولاكو ، وما هؤلاء الملوك إلا صورة حلفاء فقط، وحتى لا يظن ملك أرمينيا أو أمير أنطاكية أنهما حلفاء على نفس المستوى مع هولاكو كان هذا القرار الجديد: تعيين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية، وهي محكومة أصلاً بالنصارى، وحاكم التتار هولاكو ليس نصرانياً، ولا يفهم شيئاً في الديانة النصرانية، ولكنه أصدر قرار تغيير البطريرك وتعيين بطريرك جديد، ليس هذا فقط، بل إن البطريرك الجديد أتى به من مكان غريب جداً، فقد أتى به من اليونان، يعني: أنه عين بطريرك أرثوذوكسي على كنيسة كاثوليكية، وهذه سابقة خطيرة جداً في تاريخ النصارى ، وبالذات أن العلاقات متأزمة للغاية بين الطائفتين الأرثوذوكس والكاثوليك.
فعين هولاكو البطريرك اليوناني يومنيميوس مكان البطريرك اللاتيني الإيطالي الذي قدم من جنوة، وقد كانت الإمارات الصليبية التي في الشام كلها إمارات كاثوليكية.
وقد عين هولاكو هذا البطريرك لعدة أسباب
أولاً: لإذلال أميرا أنطاكيا وأرمينيا، حتى لا يظنا أنفسهما زعماء إلى جواره.
ثانياً: كان لا يريد أن يجعل استقراراً في هذه المناطق؛ لكي لا يتوسع أمير أو ملك على غير رغبته، بل كان يريد أن يجعلهم دائماً في التراب.
ثالثاً: كان يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني حاكم الدولة البيزنطية الكبيرة، وذلك إلى أجل، فقد كان تخطيط هولاكو اقتحام الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من بلاد المسلمين.
فلم يكن لدى أمير أنطاكية القدرة على الاعتراض، وإن كان معظم أمراء الإمارات الصليبية معترضين، لكن لم يكن لكلامهم أي نوع من القيمة.
بدأ الجيش التتري بالتحرك إلى الجنوب، فجاء إليه وفد من أعيان حماة وكبرائها يسلمون له مفاتيح المدينة دون قتال، فقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم في هذه المرة أماناً حقيقياً؛ وذلك ليشجع الناس في الشام لأن يفتحوا أبواب بلادهم كما فتحت حماة.
سمع الناصر يوسف بالأخبار السيئة من سقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي ، وسقوط مدينة حلب وحارم، وتسليم حماة وحمص، وأن الخطوة القادمة دمشق، فلم يدر الناصر يوسف الملك الجبان ماذا يفعل، وقد أعلن حرباً لا طاقة له بها، ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس، فعقد مجلساً استشارياً أعلى ضم معظم قادة جنده، فأخذوا في التباحث والتشاور، وطال النقاش والحوار، ووصلوا في النهاية إلى أن قرروا الفرار، فليس عندهم قدرة على الدفاع عن المدينة، ولم يفكروا أصلاً في الدفاع عنها.
قرر الأمير الناصر يوسف والأمراء والجيش الفرار وترك مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
خلت دمشق من الأمراء والحراس، وكانت مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط. والأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي خطة الفرار، حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام.
هنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يأخذوا مفاتيح المدينة ويسلموها إلى هولاكو ثم يطلبون الأمان منه كما فعل أهل حماة، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين، فقد تحصنوا في قلعة دمشق ودافعوا عنها حتى النهاية، فقد أتى فعل هولاكو في ترك حماة ثماره، فهذا الفعل أثر في دمشق وبدأت تسلم دون قتال، فخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو وسلمه المفاتيح، وفتحت دمشق أبوابها.
فكر هولاكو في قيادة دولة التتار بدلاً من قيادة الشام وما حولها، فترك الجيش التتري وسارع بالعودة إلى قراقورم، وعندما وصل إلى تبريز في إيران علم أن التتار قد عينوا قوبيلاي ملكاً على دولة التتار بكاملها، فكان هذا صدمة لـهولاكو ، فلم يكمل الطريق إلى قراقورم وآثر أن يمكث في تبريز، ولم يعد بعد ذلك إلى الشام، وظل يراقب الموقف من تبريز، ومنها كان يدير كل هذه الأملاك الواسعة التي فتحها.
وها هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل بغداد عاصمة الخلافة العباسية. وكانت دمشق واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة، ومن أهم ثغور الجهاد، ومن أرقى دور العلم.
زحفت الجيوش التترية على دمشق، وانسابت من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة.
أواه يا درّة الشام، ويا قلب العالم الإسلامي!
أين أبو عبيدة بن الجراح ؟ وأين خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين؟ أين الذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟
أين معاوية رضي الله عنه وأرضاه الذي حكم الدنيا بكاملها من هذا المكان؟
أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي أسقطها التتار الآن؟
أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله اللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟
أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟
مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق ما لم يخطر على أذهانهم مطلقاً، شاهدوا ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة، لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغانوين النصراني قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.
وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، عند الفتح الإسلامي لها في سنة (14) هجرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق ولم يقتلوا منهم أحداً، إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، وكانت سقوط دمشق في أواخر صفر سنة (658هـ)، يعني: بعد سنتين من سقوط بغداد، وهو زمن قياسي جداً، فقد اجتاح التتار في هاتين السنتين مساحات هائلة من الأراضي، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا، مع الكثافة السكانية الهائلة في هذه المناطق.
واسمعوا إلى هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية) تفصيلاً لهذا الأمر، يقول:
اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو في تبريز وأخذوا معهم هدايا، فاستقبلهم وأحسن استقبالهم، ثم قدموا بعد ذلك من عنده ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما -هو أحد أبواب دمشق، مسمى على اسم قديس نصراني توما- ومعهم صليب منصوب، يحملونه على رءوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عليه خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق من المسلمين أن يقوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم يقول ابن كثير : ثم إنهم دخلوا الجامع بخمر، -قبل ذلك كان يرشونه على الباب- فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هكذا كان الوضع في دمشق.
وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكاملها، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين، وكل هذا في سنتين فقط من (656هـ) إلى (658هـ)، واقترب التتار من سينا على بعد (35) كيلو متر فقط.
وهذا الرأي لم يكن محتاجاً إلى الذكاء لاستنتاج ذلك، فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفاً رئيسياً لهم، وذلك لعدة أسباب، أذكر منها ستة:
أولاً: سياسة التتار التوسعية، فهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة.
ثانياً: لم يبق في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت دولة خوارزم قبل ذلك، وسقطت بغداد وحلب ودمشق وغيرها، ولم تبق إلا المحطة الأخيرة، ولو سقطت لضاع المسلمون تماماً في الأرض.
ثالثاً: أن مصر ذات موقع إستراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفى على أحد.
رابعاً: أن مصر بوابة أفريقيا، فلو سقطت مصر لفتح التتار شمال أفريقيا بكامله، وشمال أفريقيا لم يكن يمثل أي قوة في ذلك الوقت؛ لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامناً مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب، وقد تفكك الشمال الأفريقي بعد سقوط دولة الموحدين إلى ممالك متعددة صغيرة، وكل دولة أصبحت ضعيفة جداً، فلو سقطت مصر فكل هذه الدول ستسقط بعد ذلك.
خامساً: الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فسكان مصر كانوا يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى، وهذا يمثل خطورة حقيقة على أي قوة معادية للإسلام والمسلمين.
سادساً وأخيراً: الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية جداً، وكانت عالية جداً في ذلك التوقيت بالذات، فخشي التتار أن يتولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد الأمين الكثيف العدد، والشديد الحمية، والمحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، فلو تولاه أحد المجاهدين لتغيرت الأوضاع، وتبدلت الأحوال، ولاهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , سلسلة التتار سقوط سوريا للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net