اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [3] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [3] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا حفص بن عمر الحوضي قال: حدثنا محرر بن قعنب الباهلي قال: حدثنا رياح بن عبيدة عن ذكوان السمان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناد في الناس من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فخرج فلقيه عمر في الطريق، فقال: أين تريد؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قال: ارجع، فأبيت، فلهزني لهزة في صدري ألمها -أي: آلمته وأوجعته- قال: فرجعت ولم أجد بداً، قال: يا رسول الله! بعثت هذا بكذا وكذا؟ قال: نعم، قال: يا رسول الله! إن الناس قد طمعوا وخشوا، فقال صلى الله عليه وسلم: اقعد) ].
الحديث أصله في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه نعليه وقال: اذهب فمن وجدت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فبشره بالجنة, فلقيه عمر فسأله فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني بذلك، فلهزه لهزة أوجعته -ضربه في صدره- فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيش بالبكاء من عمر ، فلحقه عمر فقال: يا رسول الله! أبعثت هذا بنعليك يقول كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: لا تفعل فيتكلوا، أو قال: فإذاً يتكلوا).
وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم.
و محرر بن قعنب وثقه أبو زرعة كما في الجرح والتعديل، وفي الحديث فضل التوحيد، ومن مات على التوحيد فهو من أهل الجنة عاجلاً أو آجلاً, لكن من مات على توحيد سالم من الشرك والبدع والكبائر دخل الجنة من أول وهلة، وإلا فهو على خطر إذا فعل الكبائر من غير توبة.
واللهز: هو الضرب بجمع الكف في الصدر.
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني قال: حدثنا سفيان والدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مراوح الغفاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله) ].
هذا الحديث فيه فضل الإيمان بالله ورسوله، وفيه تسمية الإيمان عملاً؛ لأن الإيمان: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، والإيمان إذا أطلق يشمل الأقوال والأعمال، والاعتقاد يشمل من الأعمال أعمال القلوب، وأعمال الجوارح, ويشمل تصديق القلب وإقراره، ويشمل قول اللسان، ويشمل عمل القلب مثل: النية والإخلاص، والصدق، والمحبة، فكلها من أعمال القلوب، وكلها داخلة في الإيمان، وفيه أنها أفضل الأعمال بدليل قوله في الحديث: (يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله)، فجعله من العمل، وفيه الرد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الإيمان عملاً، بل جعله والجهاد أفضل الأعمال، وفي اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) وفي بعضها قدم الجهاد على الوالدين.
والحديث السابق إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه البخاري ومسلم والدارمي .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر البيان بأن الواو الذي في خبر أبي ذر الذي ذكرناه ليس بواو وصل وإنما هو واو بمعنى (ثم) ].
يريد الواو في قوله: (إيمان بالله وجهاد في سبيله)، إذ الواو فيه معناه (ثم)؛ لأنه جاء في الحديث الآخر: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، فجعل (ثم) محل الواو، فدل على أن الواو ليس للعطف والجمع وإنما هي بمعنى ثم، كما فسرتها الأحاديث الأخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور) ].
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح.
وذكره أيضاً أحمد ومسلم .
وفيه أن الجهاد بعد الإيمان بالله ورسله ثم الحج المبرور.
أخبرنا عمر بن محمد الهمداني قال: حدثنا عيسى بن حماد قال: حدثنا الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (بينما نحن جلوس في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكىء بين ظهرانيهم، قال: فقلنا له: هذا الأبيض المتكىء، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، فقال الرجل: يا محمد! إني سائلك فمشتد عليك في المسألة فلا تجدن علي في نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل ما بدا لك، فقال الرجل: نشدتك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم. قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم. قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر) ].
هذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو حديث عظيم فيه من الفوائد: أن من أدى الفرائض وترك المحرمات فهو من أهل الجنة يدخل الجنة من أول وهلة؛ لأنه أدى ما عليه ولو لم يأت بالنوافل، ويكون من المقتصدين، وهم أصحاب اليمين الذين يقتصرون على الفرائص والواجبات، لكن السابقين أفضل منهم، وهم الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وقد أقر ضمام بن ثعلبة أنه سيصوم الشهر، ويؤدي الصلاة، ويزكي، ولا يزيد، بدليل قوله: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وفي اللفظ الآخر أنه قال: (لا أزيد على هذا ولا أنقص).
وفيه من الفوائد: أن النبي لم يكن متميزاً عن أصحابه، ولهذا يأتي الغريب فلا يعرفه حتى يسأل: أين محمد؟ فيجيبه الصحابة -كما في هذا الحديث-: هذا الرجل الأبيض المتكئ، ولو كان متميزاً بلباسٍ أو بشيء آخر كما يتميز الملوك لعرفه من سأل عنه عليه الصلاة والسلام.
وفيه أن الجد أب، ونسبة الإنسان إلى جده نسبة إلى أبيه، وهذا يستفاد من قوله: يا ابن عبد المطلب لأن عبد المطلب كان مشهوراً بخلاف عبد الله والد النبي فإنه مات شاباً، فلما كان عبد المطلب رئيساً في قومه، مشهوراً عند العرب اسمه؛ نسب النبي إليه، والجد أب.
وفيه عناية ضمام بن ثعلبة واعتذاره حيث قال: إني سائلك فمشتد عليك في المسألة، ثم قال: آلله أرسلك؟ آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات؟ آلله أمرك أن نصوم؟ آلله أمرك أن نؤدي الصدقة؟ يستحلفه فيها، وهذا مبالغة في التأكيد، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يهابون النبي صلى الله عليه وسلم، ويجلونه؛ حتى إنهم لا يطيقون النظر إليه إجلالاً له واحتراماً وتوقيراً، ويعجبهم الرجل يأتي من البادية لا يستحي أن يسأل عن دينه فيستفيدون بما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الصحابة ما كانوا يجرءون على أن يسألوا بهذه الأشياء، أما الأعرابي فإنه بما عنده من جفاء وغلظة يجرؤ على أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب، فيتعلمون مما علمه.
والمقتصد هو من أصحاب اليمن، الذين اقتصدوا أي: اقتصروا على الواجبات، وليس المعنى: قاصد أي: المريد للشيء، ولا القاسط بالسين؛ إذ القاسط هو الجائر الظالم، والمقتصد هو العادل وفرق بينهما، والقاسط مشتق من الثلاثي قسط التي تعني: جار وظلم، ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15] أي: الظالمون الجائرون، وأما المقتسط فهو اسم فاعل من أقسط الرباعي وفي الحديث: (المقسطون على منابر من نور).
والمقسطون من أقسط بمعنى عدل والفرق بينهما الهمزة.
والحديث أخرجه أحمد والبخاري .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا محمد بن الخطاب البلدي قال: حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجدي قال: حدثنا سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم، فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب الجبال: وجعل فيها هذه المنافع آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا صدقة في أموالنا؟ قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئاً، فلما قفى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة.) ].
وفيه أن المقتصد من اقتصر على الفرائض، وهو معنى قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وقد دل الحديث على أن المقتصد يدخل الجنة من أول وهلة، وأنه من أصحاب اليمين، ولكنهم ليسوا الأفضل بل السابقون بالخيرات أفضل منهم، وهم الذين يؤدون النوافل بعد الفرائض، أما الظالمون لأنفسهم فهم الذين يقصرون في الواجبات، ويفعلون بعض المحرمات، وفيه توكيد الأسئلة، وأنها مؤكدة مشددة لعظم ما تتناوله، وقوله: (زعم رسولك)، الزعم يطلق ويراد به الادعاء الكاذب، ويطلق ويراد به مجرد القول، ومعنى: زعم رسولك، أي: قال لنا رسولك كذا وكذا، وليس المراد أنه ادعى كذباً كما في قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7]، أي: زعموا زعماً كاذباً، بل زعم في الحديث بمعنى قال.
والحديث أخرجه مسلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم رضي الله عنه: هذا النوع مثل: الوضوء والتيمم والاغتسال من الجنابة والصلوات الخمس والصوم الفرض وما أشبه هذه الأشياء التي هي فرض على المخاطبين في بعض الأحوال لا الكل ].
والمقصود أنه في بعض الأحيان تختلف أحوال الناس فيها على حسب الأدلة، فمن أصابته الجنابة يجب عليه الغسل، ومن لم تصبه الجنابة لا يجب عليه الغسل، كذلك من فقد الماء يتيمم ومن لم يفقد الماء لا يتيمم, ومن كان قادراً على الصوم يصوم ومن لا يقدر على الصوم لا يصوم، بل يطعم إذا كان عاجزاً أو يفطر ويقضي إذا كان مسافراً أو مريضاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني قال: حدثنا أمية بن بسطام قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، وإذا فعلوها فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بهذا فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس) ].
حديث معاذ مشهور رواه الشيخان، وفيه أن الداعية يبدأ بالأهم فالأهم، فيبدأ بالتوحيد، وهو معنى قوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)، وفي لفظ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) واختلاف الروايات في الألفاظ يدل على أن المراد من الشهادتين توحيد الله وليس المراد النطق باللسان فقط، بدليل قوله في الرواية الأخرى: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)، أي: توحيد الله، وفي اللفظ الآخر: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وليس المراد قولها باللسان، بل واعتقاد معناها كما في الحديث الآخر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وفي لفظ: (إلى أن يوحدوا الله)، فذلك معناها.
وفيه أن الداعية يتدرج في الدعوة إن كان المخاطبون كفاراً، فيدعوهم إلى التوحيد، ثم يدعوهم إلى الصلاة، فإذا استجابوا دعاهم إلى الزكاة, وكان أهل اليمن في ذلك الزمن أهل كتاب كما في الحديث الآخر: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، أي: استعد لمناظرتهم؛ لأنهم أهل علم فليسوا كالمشركين الذين ليس عندهم علم، بل هم أهل كتاب.
وفيه أن الداعية ينبغي أن يعرف حال المدعوين حتى تكون الدعوة مناسبة، ولهذا أخبره النبي بحالهم وأنهم أهل كتاب، ثم وجهه إلى ما يبدأ به معهم فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفيه قال عن الزكاة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، والجمهور على أن الضمير في قوله: أغنيائهم وفقرائهم، يعود إلى أهل اليمن ولذا قالوا: فلا تنقل الزكاة إلى بلد آخر، وقال البخاري والأحناف: بل الضمير في قوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) يعود إلى المسلمين، وعلى هذا فلا بأس بنقل الزكاة إلى بلد آخر، وقد توسط آخرون كـشيخ الإسلام ابن تيمية فقالوا: لا تنقل الزكاة من بلد المال إلا إذا كان لمصلحة راجحة، كما إذا كان هناك قريب أو فقير أشد حاجة من فقراء البلد فإنها تنقل، وإلا فإنها تصرف في بلد المال، وقد بوب البخاري فقال: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم أينما كانوا) يريد في أي بلد، وهو مذهب الأحناف.
وفيه قوله: (اتق دعوة المظلوم) وأنه ينبغي للإنسان أن يحذر دعوة المظلوم، فلا يأخذ الزكاة من أنفس المال وإنما يأخذ من الوسط، وفي اللفظ الآخر: (وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم)، أي: ستظلم إذا أخذت النفيس من الزكاة، فاحذر دعوة المظلوم فليس لك إلا أن تأخذ من وسط المال فلا تأخذ من شراره ولا من خياره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم رضي الله عنه : هذا النوع مثل الحج والزكاة وما أشبههما من الفرائض التي فرضت على بعض العاقلين البالغين في بعض الأحوال لا الكل ].
يريد أن الزكاة لا تجب على كل أحد، وإنما تجب على من عنده مال.
هذا الحديث -حديث وفد عبد القيس- حديث مشهور رواه الشيخان وغيرهما، وفيه أنه فسر الإيمان بالأعمال فقال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟) ثم فسر فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا من أفصح الأدلة في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
وقوله: (وأنهاكم عن أربع: الدباء والحنتم والنقير والمقير)، أي: لا تنبذوا النبيذ في هذه الأشياء الأربعة الصلبة؛ لأنهم كانوا ينتبذون بها، والنقير: جذع النخل ينقر ثم يجعل فيه العصير، والمقير: المطلي بالقار، والحنتم: هي الجرار الخضر وهي تشبه صلبة الزير، والدباء: هو ما يعرف بالقرع، يؤخذ منه اللب ثم يُيَبس ويجعل فيه العصير المأخوذ من التمر أو من العنب أو من غيرها، فإذا مكث العصير في هذه الأشياء يومين أو ثلاثة فإنه يتخمر من شدة الحر، ثم يشربونه وهو خمر، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينتبذوا في هذه الأشياء الصلبة؛ لأنه قد يتخمر وهم لا يشعرون، وإنما أمرهم أن ينتبذوا في الأسقية في الجلد؛ لأنها إذا وضع فيها العصير وتخمر تشققت وقذفت الزبد وحينها تعرف أنها خمر، أما هذه الأشياء الصلبة فإن العصير يتخمر فيها وهم لا يعلمون؛ فلهذا نهاهم، وهذا في أول الإسلام قبل أن تستقر الشريعة ويعلم الناس الحكم، فلما استقرت الشريعة وعرف الناس الحكم نسخ ذلك، وأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذوا في كل الأوعية وقال: (انتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا الخمر)، وإنما نهاهم في أول الإسلام أن ينتبذوا في هذه الأشياء الصلبة؛ لئلا يتخمر وهم لا يشعرون، وأباح لهم أن ينتبذوا في الأشياء الرقيقة التي تتشقق كالجلود والأسقية.
ووفد عبد القيس هم أهل جواثا، حيث كانت ثاني جمعة جمعت فيها بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المنطقة في الأحساء، وكل المنطقة التي تطل على الخليج كانت تسمى البحرين، وآثار جواثا موجودة إلى الآن في الأحساء في منطقة محمية.
قال المصنف رحمه الله: [ قال أبو حاتم : روى هذا الخبر قتادة عن سعيد بن المسيب وعكرمة عن ابن عباس وأبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ].
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أخبرنا وكيع عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت عكرمة يحدث طاوساً أن رجلاً قال لـابن عمر: ألا تغزو؟ فقال عبد الله بن عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت) ].
هذا الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله، وفيه أن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وقد استدل به المصنف على أن الإيمان والإسلام شيء واحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم : هذان خبران خرج خطابهما على حسب الحال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الإيمان ثم عده أربع خصال، ثم ذكر الإسلام وعده خمس خصال، وهذا ما نقول في كتبنا: بأن العرب تذكر الشيء في لغتها بعدد معلوم ولا تريد بذكرها ذلك العدد نفياً عما وراءه، ولم يرد بقوله صلى الله عليه وسلم : إن الإيمان لا يكون إلا ما عد في خبر ابن عباس ؛ لأنه ذكر صلى الله عليه وسلم في غير خبر أشياء كثيرة من الإيمان ليست في خبر ابن عمر ولا ابن عباس اللذين ذكرناهما ].
يستدل المصنف بهذين الحديثين على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، ففي حديث وفد عبد القيس وهو في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بأربع وأنها كم عن أربع: الإيمان بالله)، ثم فسر الإيمان بالشهادتين فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)، وفي لفظ: (وصوم رمضان وأن تؤدوا الخمس)، وفي حديث ابن عمر قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت)، فالإسلام فسر بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، وفسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وفي لفظ والصوم، فاحتج المؤلف بهذين الحديثين على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهذا اختيار البخاري في صحيحه وهو قول لبعض أهل العلم.
والقول الثاني وهو قول الجمهور: أن الإيمان والإسلام ليسا شيئاً واحد، وإنما يختلفان بالاجتماع والافتراق، فإذا ذكر أحدهما وحده دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والدليل على ذلك أن الله تعالى فرق بين الإيمان والإسلام فقال: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] ، وفي حديث سعد بن أبي وقاص : (ما لك عن فلان إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً) ، وأما في حديث وفد عبد القيس فقد ذكر الإيمان وحده فدخل فيه الإسلام، وفي حديث جبريل سأله عن الإيمان وعن الإسلام ففرق بينهما، فلما سأله عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة، فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، وهذا هو الصواب، وقول ابن حبان رحمه الله مرجوح وهو قول لبعض أهل العلم كما تقدم.
والقول بأنهما يختلفان بالاقتران والافتراق، فإذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل له نظائر، منها: الفقير والمسكين, فإنه إذا أطلق الفقير وحده دخل فيه المسكين، والمسكين إذا أطلق وحده دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا صار الفقير في الحال والمسكين في المآل، ومثل ذلك: الربوبية والألوهية، فإن الرب إذا أطلق يدخل فيه الإله؛ لأن الرب هو الإله، وإذا اجتمعا صار الرب له معنى والإله له معنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3]، فإله الناس معبودهم، ورب الناس مربيهم، وغير ذلك من النظائر.
واستدلوا بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] لأن البيت -وهم لوط وابنتاه- اتصفوا بالإسلام والإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر الدال على أن الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد.
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا جرير عن أبي حيان التيمي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزاً للناس، إذ أتاه رجل يمشي، فقال: يا محمد! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله! فما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: يا محمد! فمتى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، ورأيت العراة الحفاة رءوس الناس، في خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة ... [لقمان:34] الآية، ثم انصرف الرجل، فالتمسوه فلم يجدوه فقال: ذاك جبريل جاء ليعلم الناس دينهم) ].
هذا حديث من رواية أبي هريرة ، وقد رواه مختصراً، وقد رواه أيضاً عمر رواية أقوى من حديث أبي هريرة خرجها الشيخان، وحديث عمر الطويل في بيان الإسلام والإيمان انفرد به مسلم .
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس، إذ أتاه رجل يمشي، فقال: يا محمد! ما الإيمان؟ قال:أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر، قال: يا رسول الله! فما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، فيه حجة على المؤلف؛ لأن الحديث فرق بين الإسلام والإيمان، فقد فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي قوله: (تؤمن بالله وملائكته ولقائه والبعث الآخر)، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة فقال: (أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة) .
وقوله: (وسأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها ورأيت العراة الحفاة رءوس الناس) .
ربة الأمة أي: سيدتها، كأن يأسر الملك أمة ثم يتسرى بها فتلد بنتاً، فتكون سيدة على أمها؛ لأنها بنت الملك، وكذلك الابن يكون ربها؛ لأنه ابن الملك، فسيكون سيداً على أمه، وقد جاء في رواية ( إذا ولدت الأمة ربها-) أي: سيدها.
قوله: (في خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34] الآية)، هذه مفاتيح الغيب وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر الدال على أن الإسلام والإيمان اسمان بمعنى واحد يشتمل ذلك المعنى على الأقوال والأفعال معاً.
أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي قزعة عن حكيم بن معاوية عن أبيه أنه قال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك فما الذي بعثك به؟ قال: الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، وأن توجه وجهك لله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران لا يقبل الله من عبد توبة أشرك بعد إسلامه) ].
الحديث إسناده صحيح وأبو قزعة هو سويد بن حجير البصري ومعاوية هو ابن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري صحابي نزل البصرة، وقد أخرجه أحمد والطبراني من طريق أسد بن موسى كلاهما عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد.
وعلى كل ليس فيه حجة للمؤلف على أن الإسلام والإيمان شيء واحد، فقد فسر الإسلام بالأعمال فقال: أن تسلم قلبك وأن تبتعد عن الشرك، وكل هذه أعمال.
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري أنبأنا أحمد بن أبي بكر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ].
الحديث سنده صحيح على شرط الشيخين، ومن طريقه أخرجه مالك والبخاري .
ولفظ البخاري (المؤمن) بدلاً من المسلم، واستدل به ابن حبان على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهذا قول لبعض العلماء، وهو اختيار البخاري ، والقول الثاني: أن الإسلام والإيمان ليسا اسماً لمسمى واحد، بل يتفقان ويفترقان، فإذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا أريد بالإسلام الأعمال الظاهرة، وأريد بالإيمان الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل، فقد فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة حين اجتمعا، أما إذا جاء أحدهما وحده كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فإنه يشمل الإيمان والإسلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، لفظ (المؤمن) يشمل المؤمن والمسلم، هذا هو الصواب وهو الذي عليه الجمهور، وهو اختيار المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية .
وللحديث سابق الذكر قصة، وهي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافراً، فَحُلِبت له سبع شياه فشرب لبنها كله، ثم لما أسلم حلبت له شاة واحدة فشربها ولم يستطع شرب الثانية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ذكر الخبر الدال على أن هذا الخطاب مخرجه مخرج العموم والقصد فيه الخصوص أراد به بعض الناس لا الكل ].
وكأنه يريد أن الحديث السابق عن الكفار وأكلهم خاص ببعضهم لا كل الناس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عمر ين سعيد بن سنان الطائي بمنبج، قال: أنبأنا أحمد بن أبي بكر عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن يشرب في معى واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء) ].
قوله: (إن المؤمن) يعني: إن المسلم، وهذا هو الذي استدل به على أن الإيمان هو الإسلام.
والحديث إسناده صحيح على شرط مسلم ، وهو في الموطأ ومن طريق مالك وقد أخرجه أحمد ومسلم .
وما ذهب إليه ابن حبان من أن الحديث ورد في كافر مخصوص قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو جعفر الطحاوي، وجزم به ابن عبد البر ، فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله، وقال غيرهم: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معى واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا.
والأصل أن يحمل النص على ظاهره، والقول بأنه الكافر المعين لا يعدل إليه إلا إذا وجد الدليل على أن المراد الكافر المعين، وحينها يكون قول ابن حبان أقرب، أما مع عدم وجود دليل فالأصل حمل الحديث على ظاهره، فالحديث صريح أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وفيه أن العلة: الكفر، وأن المؤمن يأكل في معى واحد والعلة: الإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ذكر خبر أوهم عالماً من الناس أن الإسلام والإيمان بينهما فرقان.
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟ قالها ثلاثا) قال الزهري : نرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل ].
قول الزهري: الإسلام الكلمة، أي: النطق بالشهادتين (والإيمان العمل)، ليس المقصود أن الإسلام لا يكون إلا بالكلمة وحسب، بل مقصوده أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، ومراد ابن حبان أن هذا الدليل استدل به بعضهم على أن الإسلام والإيمان شيئان؛ لأن سعد بن أبي وقاص قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى رجلاً: ما لك عن فلان فو الله إنا لنراه مؤمناً، فقال: (أو مسلماً)، أي: ما بلغ الإيمان، وكررها ثلاثاً، فدل على أن الإيمان والإسلام شيئان، وهذا دليل من أدلة الجمهور على أن الإيمان غير الإسلام وأنهما يجتمعان ويفترقان.
أخبرنا ابن قتيبة قال: حدثنا يزيد بن موهب قال: حدثني الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه أخبره أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة وقال: أسلمت لله، أفأقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، قلت: يا رسول الله! إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) ].
ومعنى قوله: إذا قتلته تكون بمنزلته قبل أن تقتله، أي: تكون مهدر الدم، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله، أي: معصوم الدم؛ لأنه قال: لا إله إلا الله، وأنت إذا قتلته تصير مهدر الدم؛ لأنك قتلت مسلماً معصوم الدم فأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته مهدر الدم، وهو بمنزلتك بعد أن قالها معصوم الدم، وليس المراد أنه يكون كافراً.
والحديث أخرجه مسلم والبخاري في المغازي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو حاتم رضي الله عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله) يريد به أنك تقتل قوداً - أي: قصاصاً - لأنه كان قبل أن أسلم حلال الدم، وإذا قتلته بعد إسلامه صرت بحالة تقتل مثله قوداً به، لا أن قتل المسلم يوجب كفراً يخرج من الملة إذ الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] ].
المراد بالخبرين في الترجمة: الخبر الذي قبل هذا والخبر الذي ترجمه بالخبر الدال على أن الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد يشتمل ذلك المعنى على الأقوال والأفعال قبل هذا الخبر بثلاثة أحاديث.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح صحيح ابن حبان كتاب الإيمان [3] للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
https://audio.islamweb.net