اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [2] للشيخ : أحمد حطيبة
أما بعد:
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الحلم والأناة والرفق.
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه, وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى) متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن].
هذا الباب في الحلم والأناة والرفق.
والحلم صفة من الصفات التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان المؤمن، فيكون حليماً في معاملته للخلق، ولا يكون عذولاً، وإنما يكون متأنياً حليماً رفيقاً بالخلق.
قال الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة : (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) .
والإنسان الرفيق حري بأن يعامله الله عز وجل هذه المعاملة، فالله كريم وحليم تبارك وتعالى، فإذا كان الإنسان كريماً فإن الله يعامله بكرمه، وإذا كان رحيماً وحليماً فإن الله يعامله برحمته وحلمه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فإذا كان الأمر يأتي بالرفق ويأتي بالعنف والنتيجة واحدة فما كان بالرفق فهو أصوب وأفضل عند الله عز وجل فتعامل مع الناس برفق، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر برفق، حتى يكون لك في الحالين الأجر عند الله سبحانه، فإن أمرك بالمعروف معروف، ونهيك عن المنكر أيضاً معروف.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) فمن يحرم الرفق يحرمه الله عز وجل الخير كله، ومن أعظم الخصال التي تكون في قلب المؤمن أن يكون رفيقاً وحليماً، فيأخذ بالرفق، فإذا حرمه الله عز وجل ذلك كان متهوراً ومندفعاً ومؤذياً، فيؤذي نفسه ويؤذي غيره، فيحرم الخير كله.
ولا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الغضب، وكل فرد منا قد يغضب في اليوم مرات كثيرة فكأن معنى الحديث: لا تنفعل في غضبك انفعالاً بحيث تؤذي غيرك وتؤذي نفسك وتندم بعد ذلك عليه، ولا تستدع أسباب الغضب بأن تضع نفسك في المكان الذي تعرف أنك ستغضب فيه وتتهور، فلا تتعاط أسباب الغضب، فإن الغضب من أسباب الشر للإنسان.
فابتعد عن أسباب الشر إلا إذا كان الغضب لله تبارك وتعالى ولشرعه، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله عز وجل غضبة من المؤمنين لشرع رب العالمين سبحانه، فيغضبون من الكفار ويجاهدون في سبيل الله، وأما الغضب من أمر الدنيا فلا تستدع أسبابه، ولا تغضب.
والإنسان الذي يغضب يصير طبعاً فيه، فإذا غضب اليوم من شيء فغداً يغضب من شيئين، وبعده من ثلاثة أشياء، وفي كل فترة يبتلى بأحد يغضبه، فيغضب ويتهور، فيقع في سب الخلق، ثم يقع في مد اليد على الغير، فيأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار. فلذلك لا تعود نفسك على التهور والاندفاع والغضب.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبر، وذلك بأن يكتف الإنسان ثم يقتل.
فإذا قتلت فأحسن القتلة، حتى مع الأعداء، فلا تشوه ولا تعذب، ودع أمرهم إلى الله عز وجل، فإذا قتلت فاقتل قتلاً يريح المقتول، ولا داعي للتشويه ولا للتعذيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار، وأخبر أنه لا يعذب بها إلا الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، يعني: في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو في غير ذلك، فإذا أردت أن تقتل شيئاً عادياً يعدو عليك فأحسن قتلته، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل خمس في الحل والحرم، فإذا قتلت ثعباناً أو كلباً عقوراً أو حدأة أو غراباً أو أي شيء من الأشياء المؤذية فاقتله وأرحه وأرح نفسك بقتله ولا تعذبه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) وقد أباح الله لنا بهيمة الأنعام لنأكلها، فإذا ذبحت فسم الله عز وجل ثم أحسن في ذبحك لها.
فمعنى: (أحسنوا القتلة)، أي: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح وطريقته، فالذبحة والقتلة اسم هيئة.
قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته) والشفرة سن السكين فلا تحدها أمام الحيوان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر على رجل واضع رجله على جانب بهيمة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريد أن تميتها موتتين؟) يعني: تعذبها بأن تحد السكين أمامها ، ثم بعد ذلك تذبحها، فحد السكين بعيداً عنها، ثم اذبحها سريعاً بحيث لا تؤذيها ولا تعذبها. قال: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
قالت: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط).
وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! اعدل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يعدل إن لم أعدل، خبت وشقيت إن لم أكن أعدل) أي: إذا كنت لا أعدل فأنت خائب وشقي، ولن تنتفع بهذا الأمر الذي أنت فيه إن كنت تتبع رجلاً ظالماً، ومع ذلك ما انتقم منه صلى الله عليه وسلم، وقال له رجل من الصحابة: (ألا أقتله يا رسول الله؟ قال لا. لعله أن يكون يصلي) ولم يأمر بقتله، ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك الرجل الأعرابي الأحمق الغبي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بثوبه وخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته صلوات الله وسلامه عليه ثم قال له: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطوه) فحلم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ ليعلم الناس الحلم عليه الصلاة والسلام.
وفي إحدى المرات أتاه وفد من الأشعريين، وقد كان يحب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويقول: (هم مني وأنا منهم) .
فجاءه الأشعريون في وقت كان مشغولاً فيه فقالوا له: احملنا. ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فقال: (والله لا أحملكم على شيء) فحلف على ألا يحملهم على شيء، فذهب الأشعريون وعندما كانوا في الطريق كلم بعضهم بعضاً: لقد أغضبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا نعمل؟
فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم صدقات من الإبل، فأرسل إلى الأشعريين فأعطاهم من هذه الإبل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: لعلنا أحلفنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (قد حلفت يا رسول الله ألا تحملنا) وهذا من أدب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وهم أهل اليمن رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فهم أرق الناس قلوباً وأفئدة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتكم) يعني: لست أنا الذي حملتكم، ولم أحملكم من مالي، فكأنه لما حلف قصد ألا يحملهم من ماله؛ لأنه ليس له مال يحملهم عليه، وهذا مال الله، وصدقة من الصدقات التي جاءت فحملتكم على مال الله وليس على مالي، فلم يمنعه غضبه من أن يعطيهم هذا الشيء الذي طلبوه، طالما أنه ينفعهم ولا يضره صلى الله عليه وسلم ذلك شيئاً.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله). فإذا انتهكت حرمات الله، كأن يقع إنسان في الزنا، أو في الكفر، أو يفعل شيئاً نهى الله عز وجل عنه، فينتقم منه النبي صلى الله عليه وسلم لله ويأمر بإقامة الحد عليه، فهو ليس انتقاماً بالمعنى الذي نفهمه، وليس فيه تشف، وإنما هذا الانتقام إقامة لحد الله عز وجل على هذا الإنسان الذي وقع في الخطيئة، قالت: (فينتقم لله) وليس لنفسه عليه الصلاة والسلام.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا خبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) .
فالنار تحرم على هؤلاء من المؤمنين، فالمؤمن إلف مألوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) والإنسان المؤمن هين لين سهل، والله عز وجل ذكر عباد الرحمن فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] وهوناً أي: بلين وبتواضع وبخشوع وبأدب.
قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] والجاهلون: أهل الجهل والسخط والباطل، فإذا خاطبوهم ردوا عليهم بكلام لين، وقد لا يردون عليهم ولا يجاوبونهم، وإذا ردوا عليهم فلا تخرج منهم لفظة قبيحة أبداً وإنما يقولون لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. فليس لنا دخل بكم، ولن نرد عليكم فيما تقولونه، ولا يقولون إلا الكلام الطيب، فقلوبهم أوعية للشيء الطيب، وكل إناء ينضح بما فيه، فقلوبهم ممتلئة بالخير، فإذا تكلمت ألسنتهم تكلمت بهذا الخير الذي أشربته قلوبهم، فالنار تحرم على هؤلاء، وعلى كل قريب من الناس.
والمؤمن ليس بعيداً عن الناس، وإنما هو قريب منهم، وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، أي: أن شر الخلق هو الإنسان الذي يتركه الناس لأن لسانه طويل، ولأنه مؤذ، فهذا من شر الناس.
وعكسه المؤمن فهو خير الناس، وهو إلف يؤلف بسهولة، فإذا تكلمت معه أحسست أنك تعرفه منذ زمان، وأن بينك وبينه مودة، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف.
ويجوز أن تقول في أي باب من الأبواب إما على الإضافة أو على الابتداء والخبر، فتقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين، ويجوز أن تقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين.
قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] هذا أدب عظيم، ومثل هذه الآداب كان يسمعها المشركون فيعرفون أن هذا الدين عظيم، وعندما كان يسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو هذا الدين الذي أنت عليه؟ وماذا أنزل عليك من القرآن؟ كان يقرأ عليه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90] فيشعر أن هذا الدين دين عظيم، فيدفعه ذلك إلى أن يدخل في هذا الدين، أو على الأقل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي يقول.
قال سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199]، يعني: ليكن خلقك الأخذ بالعفو دائماً، فمثلاً إذا خيرت بين شيئين إما أن تعفو أو تنتقم فخذ العفو واختر الأسهل، وكن على هذا الخلق العلي، قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199]، يعني: بما جاء في شريعة رب العالمين.
قال تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، أي: عن أهل الجهل والصخب والجدل والباطل، فهم لا يستحقون أن تجيبهم مجادلاً لهم، ولا ينفعهم ذلك.
وعندما كانت وفود العرب تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم شعراء وخطباء، وكانوا يأتون للمفاخرة، ويقولون: أتينا نفاخرك، فمن يتكلم أولاً نحن أو أنت، ويريدون أن يخطب هو، ويريدون أن يقولوا شعراً ويقول مثله.
فلم يكن يجيبهم إلى ذلك صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما كان ينتدب رجالاً من أصحابه ليردوا عليهم، فكان حسان يجيبهم في الشعر، ويرد عليهم به رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم يقوم خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس يخطب أمامهم، أما هو فكان منزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم، فأمره الله عز وجل بالإعراض عمن فيه جهل من الناس، وعمن لا يعرف قدره صلى الله عليه وسلم.
فأمره بالصفح الجميل، وأمره أيضاً بالصبر الجميل فأما الصبر الجميل فهو الصبر الذي لا شكوى فيه إلا إلى الله عز وجل، وليس فيه شكوى للخلق، وأما الصفح الجميل فهو صفح لا إنتقام فيه ولا معاتبة. أي: إذا صفحت فلا تعاتب.
فعلمه ربه أكمل الخلق وأعلاه، قال تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85] فلا تعاقب ولا تعاتب، فلا معاقبة ولا معاتبة.
وقال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] والإنسان المؤمن يتفكر في هذه الآية من سورة النور، وفيمن نزلت ؟ قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22].
وقد كان هذا الخطاب لسيدنا أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد أوذي أذىً شديداً جداً، وقد كان في نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت صدمته في ابن خالته الذي تكلم على ابنته، مع أنه أحسن إلى ابن خالته هذا مسطح ، ومع ذلك فإن مسطحاً هو الذي رمى ابنة أبي بكر السيدة عائشة أم المؤمنين بحديث الإفك، وردد ما قاله المنافقون، فأقسم أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فكأنه قال له: إنني طول عمرك أصرف عليك ثم أنت الآن تتكلم على ابنتي، فلن أصرف عليك مرة ثانية، وأقسم على ذلك.
فنرلت هذه الآية تعاتب أهل الفضل، وتعاتب أبا بكر فإن أبا بكر منزلتة عظيمة جداً عند الله عز وجل، والله لا يريد لـأبي بكر أن ينزل عن هذه المنزلة، فإن إيمانه لو وزن بإيمان الأمة وليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح عليها ولوزنها، فقال له ربه: أنت الذي تفعل هذا ألا تريد الله يغفر لك؟
فقال أبو بكر : بلى، أريد أن يغفر لي ربي، ورجع مرة ثانية ينفق على مسطح من دون عتاب ولا غيره، وقال: لا أقطع عنه النفقة أبداً.
فقالت الآية لـأبي بكر : وَلا يَأْتَلِ [النور:22] أي: لا تحلف مرة أخرى على قطع الخير، أي: لا يتألى ولا يقسم ولا يحلف.
قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ [النور:22] فعاتبه ومدحه، فقال له: أنت يا أبا بكر من أصحاب الفضل، فما الذي جعلك تحلف على هذا الشيء؟ فبدأ بالمعاتبة فقال له: لا تفعل هذا الشيء، ثم مدحه بأنه من أهل الفضل.
قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22] فلا بد أن ينفقوا مرة أخرى، ويرجعوا إلى النفقة عليهم.
قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22] وليجعل المسلم هذه الآية أمامه، وكلما غضب يتذكرها ويتفكر فيها، وإذا أراد الانتقام تذكرها.
قال تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] أي: فلا تنظر لهذا الذي فعل فيك هذا الشيء، ولكن انظر إلى نفسك مع الله عز وجل، فإذا أردت أن يغفر الله لك فاغفر وسامح، واترك الناس على ما أساءوا إليك، وأحسن أنت إليهم حتى تأخذ الأجر من الله، ويعاملك الله عز وجل بالإحسان يوم القيامة.
قال سبحانه: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].
والصبر يكون على مضض وعلى غيظ، ولكن على الإنسان أن يصبر ويتجاوز ويسامح، حتى يصل إلى هذه المرتبة العظيمة، وهذا من عزم الأمور، ولا يقوى عليها إلا أصحاب العزيمة، فإذا كان عندك عزيمة وصبر وقوة إيمان فأنت داخل في هذه الآية: إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43] .
فقد كانت موجودة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في يوم أحد، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة ولها تسع سنوات، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام والسنوات الماضية التي مكثها في مكة فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، ففي الخمس السنوات الأولى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قد ولدت السيدة عائشة ، ثم ولدت بعد ذلك، فهي هنا تسأله عن تلك الأيام وتقول: هل جاء عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
ويوم أحد كان يوماً عظيماً فظيعاً وقد كان المسلمون أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يكن يريد أن يخرج عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (المدينة حصن حصين) أي: اتركونا ندافع عن أنفسنا في المدينة، فأبى المسلمون إلا الخروج، فقد كانوا يريدون الشهادة مثل أهل بدر، حتى تكون لهم فضيلة عند ربهم.
فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش، وكان رأيه عدم الخروج مثل رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطاعهم وعصاني؟ فرجع بثلث الجيش.
وكانت صدمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يرجع ثلث الجيش الذين معه، ومع ذلك صبر لأمر الله سبحانه، وعندما وصل إلى أحد قام النبي صلى الله عليه وسلم يحدد للمؤمنين المكان، واختار سبعين من الرماة وأمرهم أن يكونوا فوق الجبل ولا ينزلوا، وقال لهم: (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تخطفنا الطير) أي: لو رأيتمونا جثثاً على الأرض والطير تأكلنا فلا ينزل أحد ويترك المكان الذي هو فيه.
وتبتدئ الحرب ويأتي نصر الله عز وجل وينتصر المؤمنون.
فطمع الرماة في الغنيمة أن يأخذها المقاتلون وحدهم، فنادى بعضهم بعضاً: ألم يأمركم النبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزلوا؟ فلم يسمعوا وتركوا أماكنهم ونزلوا ليأخذوا الغنيمة، فالتف المشركون من ورائهم، وقتلوا المؤمنين، فانقلب النصر إلى هزيمة؛ لأسباب هي كما قال تعالى: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].
فالمؤمنون الصادقون ما كانوا يظنون أبداً أن منهم من يريد هذه الدنيا، وكلهم يجاهدون في سبيل الله، ولم يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقالوا: ما كنا نظن أن يكون فينا أحد همه الدنيا حتى أنزل الله عز وجل هذه الآية.
فهزم المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة من المؤمنين، وكان قد جرح صلى الله عليه وسلم، وقد كان هو المطلوب أصلاً، وكان أبو عامر الفاسق قد حفر حفراً للمسلمين فوقع النبي صلى الله عليه وسلم في حفرة منها وجرح وانكسرت رباعيته، وهشمت البيضة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر الذي يقي وجه النبي صلى الله عليه وسلم في خده.
ففر المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة أو تسعة من المؤمنين، وأتى الكفار على هؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ فيقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنا يا رسول الله. فيقول: مكانك) يعني: دعك إلى الآخر. فقام إليهم رجل من الأنصار فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جريح عليه الصلاة والسلام على هذه الحال، فقال: (من للقوم؟) فقام آخر حتى قتل السبعة كلهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم مدافعين عنه، ولم يبق إلا طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ لم يبق إلا أنت، فقام فقاتل قتال السبعة وحده) رضي الله عنه، فضرب فقطعت أصابعه، فقال: حس، وهو صوت يقوله الشخص عندما يصاب بشيء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة) .
فقال: (كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إني عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) فقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء القوم وهذا سيدهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلم يجبني إلى ما أردت) . يعني: أنه ضاقت على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فخرج إلى الطائف لعله يجد أحداً يستجيب له، فخرج يدعوهم، وعرض نفسه على هذا الرجل، فأبى ولم يجب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) فقد سلطوا عليه غلمانهم وصبيانهم يقذفونه بالحجارة، فأدموا قدميه صلوات الله وسلامه عليه، قال: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، فقد مشى إلى مكان بعيد، ولم يشعر بشيء صلى الله عليه وسلم من شدة الهم والغم الذي هو فيه، إلا وهو في قرن الثعالب.
قال: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني) ولم يكن يشعر من الهم أن هناك سحابة فوقه صلى الله عليه وسلم تظله من الشمس.
قال: (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) والأخشبان: جبلان حول مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جميلاً فيه الرحمة بهم، فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) ومن يقول مثل هذه المقالة غيره صلى الله عليه وسلم؟! فهو الذي رباه ربه فأحسن تربيته قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فلم يقل له: انتقم، واعمل فيهم ما تريد، وأطبق عليهم الأخشبين فهم يستحقون العذاب، وسأذهب إلى بلاد أخرى أدعو إلى الله عز وجل، ولكنه صبر لأمر الله، ورجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
فكان الأمر على ما تمناه النبي صلى الله عليه وسلم، ونال في النهاية ما تمنى، بعد أن فتحت مكة فقد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، وبعد ثمان سنوات من هجرته إلى المدينة، فتحت مكة، ولكنه لم يهنأ بالدنيا أو الفتوح صلى الله عليه وسلم، فبعدها بسنتين مات صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] وقرت عينك بذلك.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:2-3] أي: عندما يدخل الناس في دين فلا تستمع بالدنيا، وإنما سبح واستغفر، فإن أجلك قد حان، فاستعد للآخرة، فالمكافأة ليست في الدنيا فاستعد لها.
المعنى: أنه لم يضربها كنوع من التعذيب أو التأديب، وإلا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لكز عائشة مرة حين خرج يستغفر لأهل البقيع بأمر الله عز وجل في نصف الليل، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم غارت وظنته سيذهب إلى بيت بعض نسائه، فخرجت وراءه، فلما وصل إلى البقيع استغفر لأهل البقيع ثم رجع، فرجعت، وكان يراها أمامه مثل الخيال، فلما دخل بيته كانت قد سبقته، فدخل فوجدها تنهد ويرتفع صدرها، فقال: (مالكِ؟) فاعترفت بالأمر.
قال: (فأنتِ الخيال الذي رأيت؟ فوكزها في صدرها) فهذا ليس ضرباً ولكنه معاتبة منه صلوات الله وسلامه عليه، وهي التي تقول: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط)، فهذه الوكزة ليست من الضرب في شيء، وإنما هي معاتبة منه صلى الله عليه وسلم.
قالت: (ولا امرأة) أي: من نسائه (ولا خادماً) يخدمه صلى الله عليه وسلم، (إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه) . يعني: أن الذي كان يعمل فيه شيئاً لم يكن ينتقم منه لنفسه أبداً. (إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى).
قال أنس : (فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) وهذه الرواية في الصحيحين.
وفي رواية أخرى: (لا من مال أبيك. قال: فالتفت إليه، فضحك صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه ضحك ولم يكن الموقف موقف ضحك، ولكنه لو غضب وتغيظ فقد يقوم أحد من المسلمين ويضرب هذا الإنسان أو يقتله، فلذلك ضحك ليهدأ المسلمون الموجودون كلهم فيسكتون، ويظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، وأنه كان بينه وبينه شيء، فسكتوا لهذا الشيء.
قال: (وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فهذه هي مسامحته ومعاملته فقد ضربوه وآذوه وأخرجوه وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) أي: أنهم لا يعرفون. وهذا الحديث متفق عليه.
الصرعة فعلة وتطلق على فاعل الشيء. فالصرعة: أي المصارع الذي يصرع الناس، ومثله أن يقال: فلان ضحكة، أي: إنسان يستهزأ به، فهو ضحكة يسخر به بين الناس.
ومثله قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1] فالهمزة الإنسان الذي يهمن في الغير ويطعن فيه، ليضحك عليه الناس.
واللمزة: الإنسان الذي يتكلم على غيره. فالهمزة يتكلم أمامه، واللمزة يتكلم من ورائه ويلمز فيه، فاللمزة كأنه فاعل اللمز، والهمزة كأنه فاعل الهمز، والضحكة كأنه فاعل الضحك، والصرعة كأنه فاعل المصارعة وكل هؤلاء يطلق عليهم هذه الصيغة (فعلة).
فهنا قال: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد الذي يصرع الأبطال، (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فالذي يصرع غيره شديد وقوي، ولكنه ليس هو الذي له الشدة وله الأجر عند الله عز وجل، وليس هو الموصوف عنده أنه شديد في دينه، وإنما الشديد في دينه هو الذي يملك نفسه عند الغضب.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم والحلم وحسن الخلق، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى من الجنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [2] للشيخ : أحمد حطيبة
https://audio.islamweb.net