اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2] للشيخ : أحمد حطيبة
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2] للشيخ : أحمد حطيبة
قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظاً قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) متفق عليه ].
وأحاديث أخرى من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله تُذكر في باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها.
في هذا الباب ذكر قول الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59]، أي: الإنسان الذي يضيع الصلاة يضيع أعظم أركان الإسلام، ويضيع صلته بربه سبحانه، فينشغل عنها بشيء آخر من ملاذ الدنيا، وينشغل عنها بشهواته وبشبهاته، وينشغل عنها بماله وبنيه، وينشغل عن إرضاء الله عز وجل بما يرضي الشيطان.
فهنا هؤلاء الذين خلفهم الله عز وجل من بعد المؤمنين، ومن بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام أقوام أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فالعقوبة أنهم يلقون غياً، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70].
وقال سبحانه: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقال: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].
فالإنسان تلهيه الدنيا وتلهيه المكاثرة والمفاخرة فيها، فإذا به ينشغل وينسى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كلما راعى الإنسان أمر الله عز وجل، وراقب نفسه، وعلم أنه مسئول عن كل ما يأتيه وكل ما يتركه، بدأ يتقلل من هذه الدنيا، وحتى ولو كان الله سبحانه وتعالى قد وسع عليه منها، فهو لا ينشغل بها انشغال الحارس عليها، يحرس الدنيا ويخاف ألا تضيع من يده، ولكنه ينشغل بطاعة الله سبحانه وتعالى فيما أولاه، فقد أعطاه مالاً وبنين، وكل ذلك من فضله ورحمته سبحانه وتعالى، فهو ينظر في هذه الأشياء ويؤدي الحقوق، عنده أولاد فلا يتكاثر ويقول: أنا عندي مال وعندي أولاد أكثر مما عندك، ولكن يفرغ نفسه لتربية هؤلاء الأولاد تربية ترضي ربه عنه وعنهم، وتجعل هذا الإنسان يوم القيامة في الجنة وأولاده أيضاً معه، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
فالله عز وجل يمن على الإنسان أن أعطاه الأولاد، وأن جعلهم مؤمنين فينشغل في تربيتهم على دين الله سبحانه، حتى يرضى الله عز وجل عنه وعنهم، وحتى يتبعهم به يوم القيامة، فيدخله الجنة ويدخل أولاده معه يوم القيامة.
وفرق بين إنسان أعطاه الله عز وجل نعمة المال ونعمة الولد ونعمة الزوجة، والنعم العظيمة التي ينعم الله بها على الإنسان في الدنيا، فينشغل في الاستعانة بهذه النعم على الطاعة؛ لأنه يريد أن يدخل الجنة، وبين أن ينشغل بالاستعانة بهذه النعم على المعاصي وعلى المفاخرة، وعلى الزهو والغرور، وفرق بين إنسان مؤمن وبين إنسان لا يعرف حق الله عز وجل في ذلك.
كذلك الإنسان ينفق من المال على نفسه، وينفقه على عياله، وعلى أقاربه، وينفق على المسكين واليتيم والأرملة، فيعطي حق الله سبحانه وتعالى وهو واثق أن المال لا ينقص أبداً، وهناك فرق بين هذا وبين من يكنز المال وكلما آتاه الله عز وجل شيئاً يدخر ويكنز ويخبئ وينكر نعمة الله، وينسى ربه سبحانه وتعالى، وينشغل بهذا المال كيف يخبئه حتى لا يراه أحد من الناس، فلا يعطي حق الله عز وجل في ذلك، ولا ينفق منه النفقة الواجبة ولا النفقة المستحبة.
وفرق بين من عرف الله ومن لم يعرف الله، من قدر الله حق قدره، ومن لم يقدر الله حق قدره، فالله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نعطي الحقوق التي فرضها سبحانه كما أمر، وأن نعطيها بنية صالحة محتسبين الأجر عند الله، فلا ينقص المال من مثل هذه الصدقة.
فالله سبحانه أنعم على نبيه صلى الله عليه وسلم وفتح عليه الفتوح، ومع ذلك آثر الآخرة على الدنيا، فمات صلى الله عليه وسلم وهو في ثياب أهل الفقر وليس في ثياب أهل الغنى، وتوفي صلى الله عليه وسلم في إزار غليظ وكساء غليظ صلوات الله وسلامه عليه.
قالت عائشة رضي الله عنها: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) والحديث في الصحيحين.
يقول: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم) فأول سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته كانت السرية التي فيها سعد رضي الله عنه، وكان القائد عليها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه في ستين راكباً، أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة.
يقول في رواية (بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام) هذا قبل غزوة بدر، فتراموا بالسهام، فأول سهم رمي كان من سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يكن بينهم مسايفة، كان بينهم تراشق بالرماح من بعيد، ولم يكن بينهم اقتتال ومسايفة، فـسعد رضي الله عنه ذكر أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وقال شعراً في يومها، قال:
ألا هل أتى رسول الله أنيحميت صحابتي بصدور نبلي
فكان أول من رمى بالنبل في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول سعد (وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط) هذا لفظ رواية البخاري ، يعني: طعامهم في هذه الغزوات ورق الشجر، ومن يطيق أن يأكل أوراق الشجر؟ فهؤلاء رضي الله عنهم أكلوا ذلك، واستمروا على ذلك فترة، حتى إن أحدهم ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط.
وانظر إلى بعر البعير وزبل الشاة، فهؤلاء من أكلهم ورق الشجر لم يكن لهم غائط كغائط غيرهم من الناس المنعمين المرفهين، بل ينزل منهم مثل بعر الغنم، ما له خلط، أي: ليس فيه ماء، بل شيء جاف ينزل منهم.
ذكرنا في الحديث السابق أن صحابياً فاضلاً وهو عتبة بن غزوان رضي الله عنه كان أميراً على البصرة، ويذكر كيف كانوا في فقر، يقول: (رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زميله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: والآن ما أحد منا إلا وهو أمير، فهذا كان أميراً على البصرة، وسعد بن أبي وقاص كان أميراً على الكوفة، ما الذي جعله يقول هذا الحديث أو هذه الحكاية الذي يحكيها رضي الله عنه؟
كانت بنو أسد قد شكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذْ كان عمر قد عينه أميراً على الكوفة، فكان يسير فيهم بالمعروف، ولا يألو جهده أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، فتضايق منه بنو أسد وتكلموا في شأنه وشكوه إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يريدون أن يعزله، ولم يكن يصلح معهم أحد، فكلما تولى عليهم أميرٌ إذا بهم يشكونه لـعمر رضي الله عنه.
وسعد كان قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة مباركة أن يسدد الله عز وجل رميته وأن يستجيب دعوته، فالله عز وجل استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكان يرمي ولا يخطئ في الرمي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت دعوته مستجابة، فكان الناس يخافون من دعوة سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
لكنَّ بني أسد شكوا سعداً لـعمر رضي الله عنه حتى يعزله، وكانت عادة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه يراقب الأمراء، ويسمع شكاوى الرعية، فإذا شكوا أحداً عزله، سواء أنه تحقق من الشكوى ومن صحتها أو لم يتحقق، فقد كان همه أن يريح الرعية ويولي عليهم من يرضون عنه، فكان رضي الله عنه له منطق ووجهة في ذلك، لعله كان يرى أنه طالما اشتكت الرعية الراعي، فإنه لو تركه عليهم لعله ينتقم منهم بعد ذلك فيؤذيهم.
هذه وجهة نظر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أتى بـسعد وسأله عن ذلك قال سعد : (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام). معنى (تعزرني): توقفني، عندما تقول عن إنسان: أنا أعزره على كذا، يعني: أوقفه على الأحكام الشرعية في كذا، وكأنه يقول: هذه بنو أسد تأتي تعلمني الإسلام، وقد عرفت هذا الدين من قبلهم.
قال: خبت إذاً وخسرت، أو قال: لقد خبت إذاً وضل عملي، يعني: لو كان بنو أسد هم الذين سيعلمونني الإسلام لخبت وخسرت، وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان بنو أسد من أوائل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس لهم فضل أنهم يشكونَ سعداً رضي الله عنه ويقبحون فعاله، وهو من أصحاب الفعال الجميلة، يتكلمون عنه ويقولون: إنه لا يعرف أن يصلي، والإنسان إذا أحب إنساناً رفعه في السماء، وإذا أبغض إنساناً أنزله على الأرض، مثلما قالوا:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
فالإنسان حين يكون ساخطاً على إنسان لا يرى منه إلا العيوب، فيقولون عن سعد رضي الله عنه: إنه لا يحسن أن يصلي، فعزله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبعث يسأل هؤلاء عن سيرة سعد فيهم، وكان قد ولى عليهم عَمَّاراً بعد سعد رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
فلما بعث عمر من يسألهم عن سيرة سعد قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فسأل عمر سعداً وقال: يا أبا إسحاق : إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن أن تصلي، فقال له: (أما أنا والله فقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، فأرقد في الأوليين وأخف في الأخريين).
فأرقد: من الرقود، يعني الدوام أو الإطالة، أي: إذا صليت بهم الصلاة الرباعية أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الركعتين الأخريين كسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك!
فقال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق ! فأرسل معه سيدنا عمر رجالاً إلى الكوفة، فسألوا أهل الكوفة عن سيرة سعد ، فلم يدعوا مسجداً إلا سألوا فيه عنه وهم يثنون عليه معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عبس هناك، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة وكنيته أبو سعدة ، فهذا الرجل قال لرسول عمر إليهم: أما إذ نشدتنا، يعني: أنت تحلفنا أن نقول الحق فأنا سأقول الحق، فقال هذا الكذاب: فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.
فانظروا ماذا يقول عن سعد الذي كان من المجاهدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل كذلك حتى مات رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية - أي: يقسم المغانم بيننا ولا يعدل فيها فافترى الكذب على سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض: أن سعداً عاقب هذا الرجل عقوبة شديدة بأن دعا عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه دعوة عجيبة جداً، فقال: أما والله لأدعون بثلاث..
والصحابة كانوا يخافون من دعوة سعد رضي الله عنه، وقد حصل مرة شيء بين عمر وبين سعد فقال: لأدعون عليك، فقال: ادع ولا تدعُ إلا بخير، فالصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم كانوا يعرفون منزلة سعد أنه دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مستجاب الدعوة، فالرجل هذا الذي كذب على سعد استحق أن يدعو عليه سعد رضي الله عنه فقال: لأدعون بثلاث:
اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتنة.
وفعلاً استجاب الله عز وجل دعوة سعد ، فقد عاش الرجل وشاخ وكبر سنه، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وكان يسقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر، ومع ذلك يمشي هذا الشيخ العجوز ويضايق البنات في الطرقات ويغازلهن، ويقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قال راوي الحديث: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
وهذه العقوبة غير عقوبته يوم القيامة عند الله عز وجل، وهذا جزاء كذب الإنسان حين يفتري على غيره، فاستحق أن يستجيب الله عز وجل الدعوة عليه في الدنيا قبل الآخرة.
الغرض من هذا الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا فترة طويلة على هذا الحال من الفقر حتى في مغازيهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
قال هنا في رواية: (ومالنا طعام إلا ورق الحبلة) والحبلة: ثمار شجر السمر، وحولها الأوراق، كانوا يأكلون هذه الأوراق.
الإنسان يأكل القوت ويتفكه بالفاكهة، يأكل القوت الضروري الذي يعيش عليه من قمح وشعير وأي طعام أساسي له، وبعد ذلك يتفكه بشيء زائد عن ذلك، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه أن يرزقه القوت، أي: حاجته الضرورية التي يحتاج لها صلى الله عليه وسلم على قدره، قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) هذا طلبه من ربه صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: القوت هو ما يسد الرمق.
وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع
)، أبو هريرة رضي الله عنه أسلم سنة سبع للهجرة، فقد وقعت غزوة خيبر في سنة سبع وبعدها أسلم أبو هريرة ، ومكث مع النبي صلى الله عليه وسلم باقي سنة سبع وسنة ثمان وتسع وعشر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في أول سنة إحدى عشرة، إذاً: مكث مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وخلال أربع سنوات حفظ ما لم يحفظه أحد من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.ولا شك في حفظه الكثير للأحاديث التي حدث بها رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى إن كان ليجلس على باب حجرة عائشة ويتحدث بالأحاديث الكثيرة ويرويها سرداً حديثاً بعد حديث من شدة حفظه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقول للسيدة عائشة : اسمعي يا ربة هذه الحجرة! يعني: لو كنت أنا كاذباً فكذبيني فيما أقول، فلا ترد شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، غير أنها كانت تذكر أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث هكذا.
والغرض: أن أبا هريرة كان يعلم الناس ويحفظهم، فمجلس أبي هريرة كان يقول فيه ما حفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة تشهد أنه لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وسبب حفظ أبي هريرة أنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن أبو هريرة مشغولاً بشيء، وليس له أولاد، وإنما كان همه أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكفيه أن يأكل حتى يشبع وباقي يومه يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (من أحب أن يحفظ حديثي فليبسط رداءه) فبسط أبو هريرة رداءه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يجمعه، فكانت البركة العظمى أن حفظ كل ما سمعه من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو هريرة : إن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. يعني: في سبيل طلب العلم والحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان غير مهم أن يأكل، فقد كان يربط حجراً على بطنه، ويجلس ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول من حديث حتى يحفظ.
قال: (ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه) يعني: يحكي ذكريات الجوع، ففي يوم من الأيام كان جائعاً جداً، وخاف أن تضيع منه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فأحب لو أن أحداً فطن إليه وأعطاه غذاءً بحيث يتفرغ ليحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم حين، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر) يعني: أبا هريرة يرخم اسمه تدليلاً له.
قال: (أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فاتبعته، قال: فدخل، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته ووجد كوزاً فيه لبن، فسأل: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه إليك فلان أو فلانة، وأبو هريرة جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى به لكي يطعمه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أبا هر ! قال: قلت لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) أهل الصفة من فقراء المهاجرين يصل عددهم إلى سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشغلهم أنهم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقومون في أمره من جهاد ونحوه، وهم في المسجد ماكثون، ومن فقراء المسلمين.
قال هنا: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) يدعوهم على قدح فيه لبن، قال: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا إلى أحد) يعني: ليس منهم أحد متزوجاً، ولا عنده أولاد، فمأواهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً) لأنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه الصدقة، قال: (وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) يأكل من الهدية ويهدي لهؤلاء منها عليه الصلاة والسلام، فلما قال لـأبي هريرة : اذهب وادع لي أهل الصفة، قال: (فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!) أي: هذا لا يكفي، قال: (كنت أحق أن أصيب في هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بُدٌّ) ليس هناك بد، أي: لازم عليَّ أن أطيع الله وأطيع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يردُّ علي القدح)،
الرجل يأخذ القدح ويشرب حتى يشبع من الشرب منه، ولعل أبا هريرة كان خائفاً أن ينتهي القدح، قال: (فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم)، أي: شرب أهل الصفة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: (أخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم)، صلوات الله وسلامه عليه إذْ كان يعرف ما هو الذي في نفس أبي هريرة ، هل القدح نقص أو لم ينقص؟
قال: (فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب - مرة أخرى - فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني! فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة) صلوات الله وسلامه عليه، هذه بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ شرب هؤلاء الفقراء وبقي اللبن فشرب منه أبو هريرة الذي كان يظن أن اللبن يكفيه وحده فقط، فكفى هؤلاء جميعهم، وهذا مستحيل عقلاً أن يكون قدح من لبن يكفي سبعين رجلاً حتى يشبعوا منه، ولكن هذه بركة الله سبحانه، وآية من آياته ومعجزة لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في ذلك.
والغرض: بيان الجوع الذي كانوا عليه، حتى إن أحدهم يستمر على هذا اللبن اليوم كله، وكذلك أبو هريرة ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه مفخرة لـأبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لم يشغل نفسه بشيء إلا أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وليبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام التي جاء بها من عند ربه صلوات الله وسلامه عليه.
هنا كان يقول: (لقد رأيتني وإني لأخر) يعني: من شدة جوعه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فبين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة يمشي فيقع على الأرض من شدة الجوع، فلا يقدر على الوقوف، وأحياناً الإنسان من شدة جوعه وعطشه يكون كالمجنون، فترى لسانه يخرج إلى الخارج وينزل زبد من شدقيه، فيصبح من شدة جوعه على هيئة مجنون، والذين من حوله يظنون أنه جن، ويظنون أن به صرعة.
فيأتي الرجل فيجده مرمياً على الأرض، ويضع رجله على رقبته، ظناً منه أن به صرعاً فيفعل به ذلك.
يقول: فيجيء الجائي، أي: الإنسان الذي يأتي يظنني مصروعاً وليس بي ذلك، قال: فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون وما بي إلا الجوع.
هذا من الأحاديث التي فيها بيان كيف كان أبو هريرة يعاني من الجوع والفقر، ولو شاء لخرج يتاجر في المدينة مثل غيره، أو يعمل عند أحد من أهل المدينة فيطعمه ويسقيه ويعطيه، ولكن كان هم أبي هريرة رضي الله عنه أن يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه، ويدعو له النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأمه أيضاً، فـأبو هريرة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، وأخبره أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولذلك فإن أبا هريرة لا يسمع به إنسان مؤمن إلا أحبه، والإنسان الذي يكره أبا هريرة رضي الله عنه إنسان لا حظ له في شيء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحبك إلا مؤمن).
ولقد ظهر أناسٌ يزعمون أنهم قرآنيون، يقولون: نأخذ بالقرآن فقط ولا نأخذ بالحديث؛ لأن أبا هريرة كان مشغولاً بالطعام والشراب، وكان يريد أن يشبع بطنه، قالوا: هذا الإنسان الذي يريد أن يشبع بطنه ماله ومال حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما فهموا في أي شيء كان أبو هريرة رضي الله عنه، فهم في واد وهو في واد آخر!
أبو هريرة أجاع نفسه وأتعب بدنه في سبيل حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن واحداً من طلبة العلم حكى في سيرته أنه كان يجوع وكان يعطش وكان يشقى ويكد ويكدح في طلب العلم لمدحه الناس على ذلك، ولكن يقولون ذلك عن أبي هريرة ؛ لأنه راوية الإسلام، فقد روى آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد بأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هدموا أبا هريرة هدموا ركناً عظيماً من أركان هذا الدين؛ لذلك فـأبو هريرة لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، مهما زعم أنه قرآني أو غير ذلك.
هذا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وسيد ولد آدم وحبيب رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه يموت مديوناً، ولكنه جعل وفاء هذا الدين رهناً، أي أنه إذا لم يدفع أخذ الرهن الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، ورهنه كان درعاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند رجل يهودي.
قالت: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على ثلاثين صاعاً من شعير) والصاع: كيلوان ونصف من الشعير تقريباً، يعني: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الدرع مرهونة في ثلاثين صاعاً، أي: حوالي خمسة وسبعين كيلو من الشعير.
فهذا القدر من الشعير كان يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم لأهله ويرهن درعه صلى الله عليه وسلم مقابل هذا القدر من الشعير، ليس من الفواكه مثلاً، وليس من الأشياء الغالية من الثياب ونحوها، وإنما في قوت، يا ترى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً على الله سبحانه وتعالى حتى يموت وهو آخذٌ طعاماً يأكله هو وأهله بالدين عليه الصلاة والسلام؟
لا، ولكن أراد الله عز وجل أن يرينا حقارة هذه الدنيا، وأنه لا قيمة لها، فلو كان لها قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا قيمة لهذه الدنيا عند رب العالمين.
الحديث في صحيح البخاري ،و أنس بن مالك كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه بشعير قال: ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحمل له خبزاً من شعير يغمسه في إهالة سنخة.
والإهالة: الدهن أو الزيت أو نحوه.
وسنخة يعني: متغيرة لمكثها فترة، فهنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بها، فيا ترى من منا يأكل ذلك؟ فنحن نفضل أن نأكل العيش يابساً متكسراً ولا نأكل هذه الإهالة السنخة، ولكن أكلها النبي صلى الله عليه وسلم، وغمس الخبز من الشعير في الإهالة السنخة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى) أي: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أبيات، وما أصبح اليوم عندهم ولا أمسى صاع من شعير، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يرهن درعه ليطعم أهله صلوات الله وسلامه عليه.
يعني: كل واحد عليه ثوب واحد فقط، إما أنه ثوب قصير يكاد يجعله إزاراً ويستر من سرته إلى أسفل ركبتيه، أو أنه طويل قليلاً لا يصلح أن يكون قميصاً، فيبقى كساء يكتسي به من رقبته إلى ركبته.
فيقول هنا: (إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته).
يعني: أن الذي يلبس مثل هذا الثوب كان يلبسه مثل الأطفال حين يلبسون (المرايل)، فإنهم يجمعونها على صدورهم ويربطونها في أعناقهم، فإذا أراد الركوع يخاف أن يرتفع ثوبه إلى الأعلى، فيمسك بثوبه حوله، حتى لا ينكشف فخذه أو ينكشف شيء من عورته، قال: فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة ؟ فقال: صالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم) لأن سعد بن عبادة كان مريضاً وهو سيد الخزرج رضي الله عنه.
قال: (فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، ونحن بضع عشرة ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص، نمشي في تلك السباخ حتى جئناه).
فقوله: (ولا قلانس) أي: لا يلبسون غطاء الرأس، ولا قمصاً ولا نعالاً يعني: كان الذي معهم إزار وكساء، قال: (نمشي في تلك السباخ) والسباخ: الأرض التي لا تنبت زرعا، وأرض سبخة أي: طينة مالحة لا تنبت شيئاً فهي رملية، يمشون على أرجلهم فيها.
قال: (حتى جئنا، فاستأخر قومه مِنْ حَولِه، حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه).
فخير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرن: الجيل الذي تعاشر في زمن واحد، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو سمع منه قرنه.
والقرن الذين يلونهم: الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأوا أصحابه، وهو قرن التابعين.
والذين يلونهم: قوم لم يروا الصحابة أو رأوا الأفراد القليلين من الصحابة ورأوا التابعين.
فخير القرون من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، يليهم من رأوا أصحابه، يليهم الذين من بعد هؤلاء.
قال عمران : (فما أدري قال النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) متفق عليه.
يكون من بعد قرون الخيرية الثلاثة الأول قوم يشهدون ولا يستشهدون، يعني: يشهد أحدهم من غير أن يطلبه أحد للشهادة؛ لأنه ليس أهلاً لها، فهو معروف عند الناس أنه كذاب وخائن، فيذهب ويشهد من غير أن تطلب منه شهادة؛ لأنه ليس من أهل هذه الشهادة وإنما هو شاهد زور.
قال: (ويخونون ولا يؤتمنون) فمن صفاتهم أنهم قوم يخونون ولا أحد يأتمنهم على أمانة؛ لأنهم إذا أخذوا الأمانة أو أخذوا الوديعة أو أخذوا العارية جحدوها وأكلوها ولم يعطوها أصحابها.
ويقول: (وينذرون ولا يوفون) يعني: ينذر لله يقول: علي أن أعمل كذا ولا يعمل، ويقول: لله علي إذا شفاني الله أن أعمل كذا ولا ينفذ.
قال: (ويظهر فيهم السمن)، والمعنى: أن شهواتهم في بطونهم، فهم مشغولون بالطعام والشراب، لا يأبهون لعبادة ولا طاعة ولا جهاد، وليس على بالهم شيء من أعمال الإسلام إلا الأكل والشرب وأن يتنعم في رغد العيش.
في هذا الحديث: (يا ابن آدم إنك أن تبذل) أن: مصدرية ، معناه: بَذْلُكَ الفضل، أي: ما زاد، وهذا الذي أمر به الله حيث قال: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد، لا يطلب منك الضروري ولا الشيء الذي تحتاجه، بل يطلب منك الزائد عن حاجتك أن تنفق منه.
فهنا إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، فعندما يكون عندك فضل من مال أو طعام وأنت تمسكه وحولك المحتاجون، فإنه شر لك، إذْ تسأل عن ذلك يوم القيامة.
قال: (ولا تلام على كفاف)، أي: لا لوم عليك إن كنت فقيراً وليس لديك ما تنفق منه.
قال: (وابدأ بمن تعول) فهنا تبدأ بنفسك وتبدأ بزوجك وأولادك، فهم أولى من غيرهم، فإن فاض شيء فأعطِ للآخرين، فإن لم يفض شيء فابدأ بمن تعول، كما أمرك النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فيا ترى من منا يصبح على هذه الصفة؟ قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه)، أي: الأمان في النفس وفي القوم وفي البيت، فلا أحد يخيفه، ولا أحد يهدده.
قال: (معافى في جسده) أي: أصبح سليم الجسد معافى، يحرك يديه وأطرافه ويأكل ويشرب.
قال: (عنده قوت يومه) ليس قوت شهره ولا قوت سنته، وإنما قوت يومه الذي هو فيه؛ لأنه لا يدري هل سيعيش بعد ذلك أو لا يعيش؟ فإذاً هنا ثلاثة أشياء:
الأمان في يومه الذي أصبح فيه فهو آمن في سربه.
والمعافاة في الجسد، أي: صحته سليمة.
وعنده قوت يومه.
(فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) يعني: كأنما جمعت وأعطيت له الدنيا بحذافيرها، وذلك أنه لو كانت الدنيا بحذافيرها فهو في النهاية سيملأ بطنه من طعام ويملأ بطنه من شراب، وينام على سريره الذي هو فيه ولن يشغل أكثر من سرير في النومة الواحدة، فعلى ذلك فإن الإنسان الذي يصبح وهو آمن معافى وعنده قوت يومه، كأنه أخذ الدنيا بما فيها، فصار ملكاً من الملوك، فاحمدوا ربكم على ما أعطاكم من نعم، وعلى ما أنعم عليكم بفضله وبكرمه، وسلوا الله من فضله ومن رحمته، فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2] للشيخ : أحمد حطيبة
https://audio.islamweb.net