اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشورى [29 - 31] للشيخ : أحمد حطيبة
قال الله عز وجل في سورة الشورى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:29-30].
إن خلق السموات والأرض من آيات الله سبحانه وتعالى لأولي الألباب، وآياته لقوم يعلقون، وقد ذكر الله عز وجل خلق السموات والأرض في كتابه العزيز، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات من آيات الله سبحانه وتعالى، وعن عظيم هذا الخلق، وأمرنا أن نتفكر في خلق السموات والأرض، ونهانا أن نتفكر في ذاته سبحانه وتعالى، وأمرنا حتى نستدل على قدرته وعلى قوته وعلى عظمته أن نتفكر في آياته سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تفكر في الذات الإلهية يأتي إليه الشيطان فيوسوس له، فنهانا عن ذلك، فنحن مأمورون بالتدبر في آيات الله لنعرف من هو الله سبحانه، فهو يخبرنا عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24].
إذاً: هو الذي يخبر عن نفسه سبحانه، ونحن نؤمن ونصدق، أما أن تتخيل ذلك فلا يجوز؛ لأنه لا تدركه الأفهام، ولا تبلغه الأوهام سبحانه وتعالى، ومهما حاول الإنسان أن يتفكر فلن يصل إلى ذلك، فلذلك أمرنا أن نتفكر في آياته لنستدل على قدرته، وعلى قوته، وعلى عظمته، وعلى أنه وحده الرب الذي يستحق أن يعبد.
فمن آياته خلق السموات والأرض، وقد قال لنا في سورة البقرة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164] .
أي: لمن عندهم عقول، وعندهم قلوب تعقل، وبصائر يرون بها آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فيعقلون أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.
وفي سورة آل عمران في آخرها يقول: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:189-191].
إذاً: تدبروا في آياته وفي خلقه، وعلموا أن الله لم يخلق هذا عبثاً ولم يخلقه سدىً، وإنما خلقه لحكمة منه سبحانه، فتفكروا فيما وراء ذلك، قال تعالى: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] إذاً: وراء ذلك حكمة الله، وقدرة الله، وعلم الله وأسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فهم قد تأملوا في آياته، وتأملوا في أسمائه وصفاته، وعرفوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: ما قدرناك حق قدرك، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] سبحانه وتعالى.
هذا ربنا العظيم الذي يأمرنا أن نتأمل وأن نتفكر، وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يخبرنا أن الأرض وما فيها إذا قورنت بالسموات ما هي إلا كحلقة في فلاة، أو قطرة في ماء، وإذا جمعت السموات والأرض وحاولت أن تعرف حجمها بجوار كرسي الله سبحانه لوجدت أن حجمها كحلقة في فلاة، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد علماً بجهله، وقد سمعنا قبل ذلك قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] أي: أنه الحق من عند الله، وأن هذا الكتاب حق، وأن النبي الكريم حق، وأن الساعة حق، وأن ما أنزل الله عز وجل من السماء إلينا شريعةً ومنهاجاً هو الحق، قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60].
إن الكون الذي نعيش فيه تملؤه هذه النجوم والأقمار والشموس ولا نستطيع أن نعرف حدوده، بل إن علم الفلك لم يصل إلى ذلك أبداً، وأهل هذا العلم يقولون: مستحيل أن ندرك ذلك، فهم يقيسون المسافات في هذا الكون، والمسافات بين النجوم بعضها البعض يقيسونها بالسنة الضوئية، قال الله تعالى في هذه النجوم : فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] إنك ترى النجم على ما يجيء لك من الضوء فتقول: هي تحركت من مكانها وانتقلت إلى مكان آخر، فأنت ترى موقعها ولا ترى النجم نفسه، فالضوء يصل إليك من النجم في أربع سنوات ضوئية ونصف سنة ضوئية.
إن المسافات إذا كانت أضخم من ذلك بكثير فإنك لن تحسبها إلا بالثانية الضوئية، والسنة الضوئية، والثانية الضوئية معناها: المسافة التي يقطعها الضوء خلال ثانية واحدة إلى بعد ثلاثمائة كيلو متر.
إن الشمس تبعد عن الأرض بحوالي مائة وأربعين مليون كيلو متر، وهذا بعد واسع جداً، لكن قياساً على غيرها من النجوم فهو بعد بسيط جداً، فعندما نحسب بعد النجوم نحسبه بالسنة الضوئية، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، اضرب ثلاثمائة وستين يوماً في أربع وعشرين ساعة، ثم اضرب في ستين دقيقة، ثم اضرب في ستين ثانية، ثم تحصل على السنة الضوئية وتضربها في ثلاثمائة ألف كيلو متر، وبذلك تستنتج مسافة السنة الضوئية، فالسنة الضوئية تساوي تسعة وثلاثة من عشرة مليون كيلو متر، والمليون في المليون ترليون كيلو متر، إذاً: تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر، هذه هي السنة الضوئية، فإذا قيل لنا: إن هذا النجم في السماء يبعد عنا بمقدار أربع سنوات ونصف سنة ضوئية، فاضرب في تسعة وثلاثة من عشرة ترليون سيكون الناتج: أربعين ترليون كيلو متر بين هذا النجم وبيننا.
إن النجوم زينة للسماء الدنيا، ولا ندري كم بعدها في السماء الدنيا، وقد خلق الله سبع سموات، وقد استفتح النبي صلى الله عليه وسلم ففتحت له باب السماء الدنيا، وسلمت عليه الملائكة ووجد فيها من رسل الله فلاناً وفلاناً والسماء الثانية مثلها، فهي سموات عظيمة جداً، وبعد الكون بعد عظيم شاسع واسع، يقول العلماء: يقدر قطر الجزء المدرك من الكون بأكثر من عشرين بليون سنة ضوئية، وهذا أعظم مما يتخيله الإنسان، وهو مخلوق خلقه الله.
وإذا أردنا أن نصنع آلة حديثة توصلنا إلى أبعد من ذلك لما استطعنا؛ لأن الكون يتسع، ودائرة الكون تكبر، فالكون تحت هذه السماء الدنيا، والسماوات فوق السماء الدنيا، والله سبحانه فوق السماوات، ويقول العلماء: إن أفلاك الكون تجري بسرعة الضوء، أي: ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، ويقولون: هذا الجزء المدرك مستمر في الاتساع منذ لحظة الخلق الأولى للكون وإلى أن يشاء الله، وذلك بمعدلات فائقة تتباعد بها المجرات عن المجرة التي نحن فيها، فالمجموعة الشمسية بكل ما نراه حولنا في مجرة واحدة وتتباعد المجرات بعضها عن بعض، وتكاد تقرب من سرعة الضوء، وعلى ذلك يقول العلماء: فإننا كلما طورنا أجهزة الرصد والقياس وجدنا هذا الجزء من أطراف الكون المدرك قد تباعد واختفى عن إدراكنا! فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى في هذا الكون العظيم!!
يقول العلماء: ويحصي علماء الفلك الجزء المدرك من الكون بحوالي مائتي ألف مليون مجرة، أي: مائتي مليار مجرة، هذا الذي تمكنوا من إحصائه، والمجرة التي نحن فيها يسمونها: مجرة درب التبانة، وفيها شموس وأقمار وفيها نجوم بعضها مثل الشمس وبعضها أكبر منها، وبعضها أصغر، ويقولون: المجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض على هيئة قرص مفلطح، هذا القرص يبلغ قطره مائة ألف سنة ضوئية، وسمك هذه المجرة يبلغ عُشْر هذه القيمة وهو عشرة آلاف سنة ضوئية، والسنة الضوئية مقدارها تسعة وثلاثة من عشرة ترليون كيلو متر.
والمجرات تتخذ أشكالاً متعددة تحتوي على عدد من النجوم، والمجرة التي نحن فيها وتنتمي إليها الأرض تحتوي على عدد من النجوم يتراوح هذا العدد بين الألف مليون والترليون نجم، وذكروا أشياء كثيرة أكثر من ذلك، وغرضنا ليس هو إحصاءها، وإنما الغرض: أن هذا الكون واسع وفسيح جداً يحار له العقل ولا يدركه، وعندما يتسع الكون يضيع ما قد عرفنا قبل ذلك، كل هذا تحت السموات والأرض التي هي فوق هذا العالم، فإذا كان هذا الكون الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ندرك بعضه ولا نقدر أن ندرك أكثر من هذا الذي أدركناه، والعلماء يقولون: إن هذا الكون ضخم جداً، وهناك تجمعات أخرى نحن لا نراها من هذه المجرات، ولم نستطع أن نصل إليها في هذا الكون؛ لأنها تبعد في كل وقت فيقف العقل البشري عاجزاً عن أن يصل إلى حجم الكون، وهو خلق من خلق الله سبحانه. فإذا قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] سبحانه الكبير باللام التي تفيد اختصاصه وحده سبحانه بهذه الصفة على عظمتها وعلى أحقيتها، فإذا قلنا: هذا الكون كبير، وفلان كبير، وفلان أكبر من فلان، فإننا نقول: الله هو الكبير، وهو أكبر من كل شيء سبحانه، فإذا دخلت في صلاتك وقلت: الله أكبر، أي: الله أكبر من كل شيء، وإذا واجه الإنسان معضلة من المعضلات أو مشكلة من المشكلات يصلي فيقول: الله أكبر من ذلك، الله الكبير سبحانه القادر على أن يحل المشاكل كلها سبحانه وتعالى، فالله الكبير أكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وأنت لم تدرك من هذا الكون شيئاً، قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].
إن الإنسان في تخصصاته في الدنيا إذا تخصص في الطب ثم تخصص في شيء آخر كالسمعيات مثلاً، ثم في الزراعة، فهذا شيء صغير جداً أمام علم الله سبحانه، فالإنسان لا يحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، ولهذا أخبرنا سبحانه أن من آياته خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
وقال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية:17-19]، أفلا ينظرون كيف خلقت هذه الأشياء؟ وقال لنا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] ولما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها)؛ ولذلك إذا قرأت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] فتأمل في خلق الله سبحانه تعرف قدرة ربك سبحانه وتعالى الذي أحاط بهذا كله علماً، فهذه الشموس، وهذه النجوم التي تمشي وتجري فتروح شمالاً ويميناً، وكلها تدور في هذا الكون بانتظام منسق، ويجعل الله سبحانه وتعالى لكل شيء أجلاً، فهذا النجم ينفجر، وهذا النجم يبدأ ميلاده كما قدره الله سبحانه وتعالى.
والإنسان حيث يشاهد هذا الكون يجد أن كل شيء يحييه الله عز وجل ويميته سبحانه، قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255], وقال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [الرحمن:5-7]، رفع هذه السموات، وأنزل لكم العدل في أرضه حتى تعدلوا وحتى تزنوا بالحق، وحتى لا تخسروا في الميزان، علمنا العدل الذي به قامت السموات والأرض، وقد قامت السموات والأرض بحساب دقيق عادل من الله سبحانه، ولو أن هذا الحساب فيه شيء من الخطأ لسقط الكون كله، ولتخبطت النجوم في بعضها، وهلك الكون، ولكن الكون موجود به ذلك، ولذلك يخبرنا ربنا سبحانه عن آية من آياته يسمونها: آية التمانع، قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] فلو كان في الكون آلهة إلا الله لفسد هذا الكون، فنقول: دليل التمانع أنه إله واحد امتنع من الفساد، فالسموات لها نظام موحد، فالنجوم تطلع كل يوم من مكانها، والشمس من مكانها، والقمر يطلع على عادته، والأرض تسير في مكانها منذ أن خلقها الله سبحانه في فلكها، قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33] ولو كان هناك آلهة غير الله لقال إله للشمس: اطلعي، والآخر يقول: لا تطلعي، وذلك يقول للأرض: سيري من هذا المكان، والإله الآخر يقول: من هذا المكان، فلو كان ذلك لهلك الكون وفسد.
والعادة أن المركب فيه رُبَّان واحد، ولا يمكن أن يسيره ربانان، فهذا الكون العظيم هل يعقل أن فيه كذا إله يدبر أمر هذا الكون ويسيره؟! قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:22-23].
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) إذا قلنا: إن هذه الأرض التي نراها عظيمة وفسيحة بجوار السموات كحلقة في فلاة، وأن هذا الكون الذي حولك تحت السماء، فكيف تكون سماء فوق سماء، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ليس بحسابنا نحن، وإنما بحساب الله عز وجل؟! قال الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] فالله سبحانه يرينا قدرته وعظمته في هذا الكون الفسيح.
وكذلك خلق الله في السموات دواباً لا نعلمها، يقول العلماء: أردنا أن نصعد كوكب الزهرة كي نعرف هل هناك مخلوقات لله سبحانه، أم أنه ليس هناك غيرنا في هذا الكون؟ فقمنا بتحليل تربة كوكب الزهرة لكي نعرف هل هناك أوكسجين أو ماء أم ليس هناك شيء من ذلك؟ فوجدناه محاطاً بالجليد، ولم نعرف من أين جاء هذا الجليد؟ فالله يبث ما يشاء من خلقه فيما يشاء سبحانه وتعالى ويخلق ما يشاء.
وقد علمنا أن السموات ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك من الملائكة، وعلمنا أن الله عز وجل جعل ملائكة في الأرض سياحين يسيحون في الأرض ويبحثون عن مجالس الذكر، ويحيطون بنا ويحفظوننا بأمر الله سبحانه، ونحن لا نرى هذه الملائكة، ولكننا نؤمن بها ونعلم أن قوتها أعظم منا بكثير، وأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فإذا تكلم الإنسان وقال: النجوم خالية فارغة ليس فيها أحد، فنقول: الله يخلق ما لا تعلمون، فالأرض حولنا فيها ملائكة وفيها جان وفيها شياطين، ونحن لا نرى شيئاً من ذلك، ونؤمن بوجود هذه الأشياء، فالله بث في السموات دواباً، وبث في الأرض دواباً، ونحن نعلم شيئاً ويخفى عنا الكثير، والله يعلم كل شيء سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ) أي: نشر، وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أي: من دلائل قدرته وعظمته سبحانه وتعالى آية له، ومن معجزاته وعلامات قدرته ودلائل قوته سبحانه أن خلق السموات وخلق الأرض وبث في السموات والأرض دواباً، وكل ما يدب في مكان فهو دابة.
فقوله تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) أي: من آيات الله سبحانه؛ فإذا حاولت وتأملت كم من الدواب على هذه الأرض وكم من الأجناس التي خلقها الله، فإن تحت كل جنس من هذه الأجناس أنواعاً، وتحت كل نوع أصنافاً، ويقسم العلماء هذه الأشياء ويحاولون حصر الأجناس، وما قدروا أن يحصروها، والحصر مستحيل لخلق الله سبحانه، والله يعلمها بأفرادها فرداً فرداً، وهذا الفرد ما فيه من أعضاء خلقها الله سبحانه يعلمها واحداً واحداً، ويعلم كيف تسير؟ وكيف تقوم؟ وكيف تنام؟ وهو الذي يحييها ويميتها سبحانه، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) وقد عرفنا هذا، وعرفنا أن الحجم أعظم بكثير، والعدد عظيم وعظيم جداً، يخبرنا ربنا سبحانه أنه أحصى كل شيء عدداً، فنحن نجتاز المليون والمليار والترليون، وما بعدها من أعداد لا نستطيع معرفتها، فالله أحصى كل شيء عدداً، وكل شيء عده الله وأحصاه ولا يغيب عنه شيء سبحانه، فهو خالقه ومالكه سبحانه وتعالى، وبث هذه الدواب التي يعلمها في هذا الكون، ثم هو على جمعهم إذا يشاء قدير.
يقولون: إنه كلما ازداد العدد على الإنسان كلما صعب الحساب وصعب الجمع، فالله عز وجل يخبر أنه هو الخالق، وأنه وحده الذي ينفرد بذلك، وأنت لا تقدر إذا زاد العدد عليك أن تجمع هذا العدد، لكن الله يقدر على ذلك سبحانه، وهو قادر على جمع كل ما خلق من دواب، وكل ما خلق في هذا الكون سبحانه وتعالى.
إذا نظرنا لهذا الإنسان المخلوق كم يوجد من البشر على هذا الكون؟ نقول: الموجودون الآن من البشر أحياء على هذا الكون ستة مليار، فكم ماتوا منذ خلق الله آدم؟ وكم يخلق الله إلى أن تقوم الساعة؟ وكم العدد كله؟ وكم من المليارات، وكم من الأعداد العظيمة من البشر؟! وكل إنسان من هؤلاء خلقه الله وخلق له رزقه، وحسب له حياته ووقت مماته سبحانه وتعالى، خلقه ومعه رزقه وعمله، وإما شقي أو سعيد، ومكانه جاهز في الجنة أو في النار، أليس هو العظيم العلي الكبير سبحانه وتعالى؟! والذي يعلم كل شيء وأحاط بكل شيء علماً ولا يضيع منه شيء، ولا يغيب عنه شيء، ولا ينسى ربك أحداً، ولا ينسى ربك شيئاً سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه يأمرنا أن نتدبر في هذا الكون، فالكون عظيم، والذي خلقه هو الله الأعظم سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر أن يجمع الناس، فإذا كان ربنا خلق هذا الكون وسيجمعهم بعد ذلك فهل يستطيع أحد أن يهرب من ربنا سبحانه وتعالى؟!
فالله هو الذي دبر هذا الكون كله، وكل شيء يجري تحت مشيئته وقدرته، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41] فهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وكل ما في الكون يحركه الله، وكل شيء يدور وكل شيء يجري في هذا الكون بأمر الله، ومن العجيب أن حركة كل شيء في هذا الكون حركة عجيبة جداً، والناس الوحيدون الذين يوافقون هذه الحركة هم المسلمون، فأنت حين تتحرك وتدور حول الكعبة تدور مثلما يدور الكون كله، فتدور عابداً لله سبحانه، تطوف ببيت الله سبحانه كما يطوف الكون كله بمثل هذه الحركة، وهي حركة عجيبة؛ إذ أن الكون كله يدور على مثل هذه الحركة، وقد أمرنا الله نحن المسلمين أن نطوف حول البيت بمثل هذه الحركة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى، والذي خلق ذلك كله يقول: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134] فلا مهرب ولا مفر من الله، فهو الذي أحاط بالكون العظيم كله، فكيف تهرب من الله وأنت لا تستطيع أن تخرج من هذا الكون؟!
قال تعالى: (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) فجازاكم بالبعض فهو يعفو عن الكثير سبحانه وتعالى لعلكم تعودون إليه وتتوبون إليه سبحانه وتعالى.
يقول لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) انظر إلى رحمة الله وكرمه سبحانه وتعالى، فحتى لا توافي ربك بمعاص كثيرة يوم القيامة يبتليك الله عز وجل بشيء من التعب والنصب أو مرض تؤذى به، أو جرح أو وخز إبرة أو شوكة تشاكها فيعطيك حسنات، أو يكفر عنك من سيئاتك، فتلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد خفف عنك بمصائبك.
قال تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) لذلك إذا حدث لك شيء من ذلك فقل: الحمد لله، ولا تعترض على أمر الله، فكله بما كسبت أيدينا ووقوعنا في المعاصي، فالله يفعل فينا ذلك رحمةً بنا، فالله لا يحاسبنا على كل المعاصي -فهو أكرم من ذلك- وإنما ببعضها تذكرةً لنا بأننا ضعفاء، فالإنسان ضعيف لا يقدر أن يمنع نفسه، وهو الذي يتعاظم على الناس ويقول: أنا قوي، فإذا شاكته شوكة عرف قدره، وعرف أنه ضعيف فتراه يصرخ من جراء ذلك، فالله العظيم سبحانه يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وهذه قراءة الجمهور، وقرأ نافع وأبو جعفر ، وابن عامر : (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بغير فاء.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن) إن الهم الذي يهمك ويضايقك لك أجر فيه من الله عز وجل إذا قلت: الحمد لله، ورضيت بقضاء الله وقدره، وعلمت أن ذلك بما كسبت يداك ووقوعك في المعاصي، فإن الله يجعل لك في ذلك أجراً، لكن لا تطلب من ربك أن يعاقبك على ذلك، ولكن اطلب رحمة الله سبحانه فهو يعفو عن كثير سبحانه وتعالى.
قال: (ولا هم ولا حزن ولا أذى) أوذي بكلمة ضايقته، أو مر في الطريق فأوذي وتقطعت ثيابه فحصل فيه جرح أو أذى، أو أصابه الغم أياماً وليالي، كل هذا تكفير لسيئات الإنسان، وزيادة حسنات عند الله سبحانه، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
جاء في حديث في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنه دخل شباب من قريش عليها وهي بمنى وهم يضحكون -ولعلهم أقرباء للسيدة عائشة- فدخلوا عليها وهم يضحكون قالت: وما يضحككم. قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عينه أن تذهب، قالت عائشة: فلا تضحكوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) فتضحك على ماذا؟ تضحك على المنظر الذي أمامك؟ ألا تعلم أن من وراء ذلك يكفر الله عنه سيئات.
إذاً: حقيقة هذا الأمر: أن الله يكتب له حسنات، فهل تضحك على أن الله يكتب له حسنات، وتضحك على أن الله يكفر عنه سيئات؟ لا تضحك على مثل ذلك، وإذا لم يتبين لك ذلك فلا تضحك على مصيبة أخيك، ولا تشمت بمصيبة أخيك فيعافيه الله ويبتليك.
ولذلك كانت السيدة عائشة كثيراً ما تتمثل ببيت واحد من العرب:
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
تذكر أن الدهر إذا أناخ بأرض قوم أو على قوم أناخ على أناس آخرين، وهذه عادة الإنسان في هذا الكون أن الله عز وجل يضعه ويرفعه، فإذا رأيت إنساناً قد وضعه الله فلا تشمت به؛ لأن الضر سيكون عليك بعد ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه).
قال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [الشورى:31] ذكر الله لنا من خلق السموات والأرض وقدرته العظيمة الفائقة الباهرة، وهذا الخلق العظيم الذي يحيرنا نحن من خلق الله، فأين نفر من الله سبحانه؟
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فأنت إذا هربت من الله إلى الله، ستهرب من الله إلى أين؟ إلى الله سبحانه، فارجعوا إلى ربكم وتوبوا إليه وأنيبوا، ارجعوا إلى ربكم ولا تفروا، فأين المفر من الله سبحانه وتعالى وهو القادر عليكم.
نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشورى [29 - 31] للشيخ : أحمد حطيبة
https://audio.islamweb.net