اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشورى الآية [13] للشيخ : أحمد حطيبة
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الشورى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى لنا في هذه الآيات وما قبلها أنه الرب سبحانه وتعالى، الذي لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا .. [الشورى:12-13] إلى آخر ما ذكره سبحانه.
و(الله): هو الإله المعبود سبحانه وتعالى، وهو الرب الخالق الموجود المعطي سبحانه وتعالى، وقد اجتمع له الأمران: الربوبية والألوهية، ولا يوجد معبود من دون الله سبحانه وتعالى يجتمع له ذلك، فقد يتخذ الناس إلهاً من دون الله فيتوجهون إليه بالعبادة، ولكن هذا الذي يعبدونه لا يملك أن يخلق، ولا يملك أن يرزق وأن يعطي، ولا يملك أن يحيي وأن يميت، ولا يملك السموات والأرض، والله سبحانه وتعالى هو الذي له ملك السماوات والأرض، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، وقال هنا: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:12]، أي: يملك مفاتيح خزائن السماوات ومفاتيح خزائن الأرض، فمفاتيح الخزائن بيده، فهو الذي خلقها، وخزائنه لا تغيض بل تفيض، فإن خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، ولا ينقصها عطاء، والله عز وجل هو الذي يعطي ويرزق من فضله ومن كرمه سبحانه، فإنه يقول للشيء: كن فيكون.
هذا الإله العظيم الرب الخالق يقول: شرع لكم ، أي: جعل لكم شريعة.
وشرع: سلك بكم طريقاً، ونهج لكم منهاجاً، وسنّ لكم سنناً، فجعل لكم هذا الطريق، وشرع لكم شريعة. و(شرع) مأخوذ من الشارع، والشارع يطلق على الطريق الأعظم، والطريق الأعظم هو الطريق الواسع الذي يمر فيه الجميع، فالله عز وجل شرع لكم، أي: جعل لكم طريقاً موصلة إليه، ومنهجاً تسلكونه؛ حتى تسيروا على طريق الله سبحانه وتعالى بعبادته، فتصلون إلى جنته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) أي: شرع لكم ديناً، وجعل لكم شريعة ومنهاجاً تعملون بها فتسلكون بها إلى الجنة، والذي شرع لكم هو الله سبحانه وتعالى، الذي قال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40]، فالله عز وجل كما أنه يخلق -وهذه من صفات ربوبيته- كذلك يحكم ويشرع، وهذه من صفات ألوهيته سبحانه وتعالى أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]، فالحكم لله، كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].
فدين الله واحد، وهو دين عقيدة وتوحيد، ودين لا يتوجه فيه الإنسان بقلبه إلا إلى إله واحد سبحانه وتعالى، وهو الإله الحق وحده لا شريك له.
فإن النبي: كل من يوحي إليه الله سبحانه وتعالى.
والنبوءة: الإخبار بالغيب، والإخبار بما غاب عنا، وقد كان آدم عليه الصلاة والسلام نبياً، يوحي إليه الله، ويأمره ويعلمه وحياً منه سبحانه وتعالى.
وأما الرسول: فهو الذي معه شريعة يبلغها، فيكون رسولاً مرسلاً من الله عز وجل، كما تقول: أرسلت فلاناً برسالة، أي: أنك أعطيته رسالة أو شيئاً ليوصله إلى آخر، فالرسول ينزل الله عز وجل إليه شريعة وكتاباً من السماء، ويأمره بأن يبلغ إلى الناس هذه الرسالة من ربهم سبحانه وتعالى، وهذه الرسالة فيها شريعة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
إذاً: فقد أرسل الله كل الأنبياء والرسل بدعوة واحدة، وهي: أن يدعوا إلى دين الله سبحانه، وإلى التوحيد، وقد كانت دعوة الرسل لقومهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، قال تعالى عن نوح: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، وقال عن هود: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، وقال عن صالح: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، وهكذا جميع الأنبياء يدعون قومهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، فهي رسالة واحدة، وهي التوحيد.
وأما النظر فيما يصلح لكل أمة من أحكام شرعية، فهذه يختلف فيها الأنبياء، فهؤلاء يضيق الله عز وجل عليهم، فيحرم عليهم أشياء، ويضع عليهم آصاراً، وأولئك يخفف عنهم وينسخ عنهم، وهذا في أحكام التعبد لله سبحانه وتعالى، وإن كان الجميع يتوجهون إليه بالعبادة سبحانه وتعالى.
إذاً: هنا تختلف الشرائع، ولا تختلف الأديان، فأصل الدين واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنك تدين لربك سبحانه أنه هو الإله الواحد الذي يستحق أن يعبد، ولا يعبد إلا بما شرع، فإذا أمرك بالصلاة فصل كما أمرت، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج بأن يصلي خمسين صلاة، وإذا بموسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تقدر على ذلك، فيرجع إلى ربه فيسأله التخفيف، فخفف عنه ربنا ووضع عنه، حتى وصل الأمر إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال موسى لنبينا صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت، فقال الله سبحانه وتعالى: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، هن خمس وهن خمسون).
إذاً: فموسى أمر قومه بالصلاة، وقد كانوا يصلون بطريقة معينة، وقد علم موسى كيف أمرهم بذلك، ولم يطيقوا، وأمرنا الله عز وجل بالصلاة على هذه الهيئة التي نعرفها، وهي أشرف وأفضل الهيئات، أن نسجد فيها لله سبحانه وتعالى.
إذاً: فقد تختلف الشرائع بحسب مصالح العباد، وبحسب ما يصلح لهم، وبحسب حاجاتهم، ولكن الدين واحد، وهو دين الإسلام، قال الله سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] وقال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] وملة إبراهيم هي دين الإسلام هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78]، فهذا دين الإسلام، وهو: أن تسلم نفسك لله سبحانه، وتوجه قلبك إليه سبحانه، وتعمل بطاعته، وتنتهي عن معصيته، وتكون عبداً له تستشعر العبودية بين يديه سبحانه وتعالى.
هذا هو ديننا دين الإسلام، ودين الأنبياء والمرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: وأنت يا محمد، (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم عليهم الصلاة والسلام.
ومن معنى: أقيموا هنا نفهم معنى قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، أي: استقيموا عليها، وواظبوا عليها، وتوجهوا بها إلى الله سبحانه وتعالى، واجعلوها مستقيمة لا عوج فيها، فلا تعوجوا فيها، ولا تتركوها وتسرحوا عنها، ولا تغفلوا عنها، وإنما أقيموا الصلاة كما أمركم الله سبحانه وتعالى.
فنفهم الفرق بين قوله سبحانه وتعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] وبين أن نقول: صلوا؛ فإن المطلوب هو إقامة الصلاة والاستقامة عليها وتقويمها وتعديلها على الوجه الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وأيضاً الإخلاص فيها، وأن نكون بها بعيدين عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
وهنا قال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)، فأمر الله عز وجل الأنبياء والرسل بإقامة هذا الدين، ونحن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فأمرنا بذلك معهم، فيلزمنا ذلك بأن نقيم دين الله عز وجل في أنفسنا، ونحتكم إليه، ونعمل بشرعه، ونقيمه على أهلينا وعلى الناس، وندعو الخلق إلى دين الله سبحانه وتعالى، ونعلمهم ما هو هذا الدين الذي تركه الناس وراءهم ظهرياً.
وأنت إذا سألت إنساناً اليوم عن دين الله سبحانه لا يعرف أكثر من أنه يصلي ويصوم، ولا يعرف كثيراً عن دين الله تبارك وتعالى، وأما شرع الله وحدوده تبارك وتعالى فإنه غافلا عنها ناسٍ لها، بل لعله يزعم أن هذا كان في الماضي، وأما الآن فلا يوجد هذا الأمر، قال تعالى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، أي: في دين الله سبحانه، وإذا كان الحكم لله سبحانه وتعالى فكيف نتفرق ونحن نحتكم إليه؟
إذاًً: فلنأخذ دين الله ونُرجع الأمر إليه، ونَرجع إليه في جميع أمورنا، ونتحاكم إليه، فإنه الرب الواحد لا شريك له. وقوله: ولا تتفرقوا فيه ، أي: في هذا الدين العظيم.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بعد الفجر في المسجد، وكان أصحابه يجلسون حوله يذكرون الله سبحانه، وكل يذكر الله في نفسه إلى أن تطلع الشمس، ثم يصلون ركعتي الضحى، ثم يتكلمون مع بعضهم، ويذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، من أنهم كانوا يعملون كذا وكذا، فيقول أحدهم: كنت أصنع صنماً من عجوة فإذا جعت أكلته! فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مما يقولون.
وهؤلاء هم الذين كانوا في الجاهلية يقولون: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [:ص5] أي: شيء بالغ في العجب، فإنا ما سمعنا قبل هذا بهذا الكلام، فكان عندهم أولاً عجيباً، ثم أصبح الآن صواباً؛ لأن العقول عندما يهديها الله سبحانه وتعالى تفكر تفكيراً سليماً منطقياً، وعندما يضلها سبحانه وتعالى لا تفهم شيئاً فتخوض فيما لا تفهمه، وتهرف بما لا تعرفه، وتتكلم فيما لا تجيده.
وقد يكون الإنسان رجلاً وصل إلى علم عظيم من علوم الدنيا، أو وصل إلى علم عالٍ بالذرة أو بالفلك، ومع ذلك يشرك بالله سبحانه وتعالى، ويفعل أفعالاً عجيبة، فتجده يعبد حجارة أو ناراً أو أشجاراً أو أنهاراً أو غيرها من دون الله سبحانه وتعالى.
يقول أحد الدكاترة: أنه كان يدرس علم المخ والأعصاب في اليابان، وفي يوم الإجازة ذهب أستاذه وغيره إلى المعبد، وكل واحد منهم أخذ معه جرساً، فسألهم: ماذا تعملون بهذا الجرس؟ فقالوا: نوقظ به الإله حتى ندعوه فيستجيب لنا! والنوم في الإنسان دليل على ضعفه وعلى أنه محتاج إلى الراحة وإلى النوم، وهؤلاء إلههم نائم، فهم يذهبون إليه في المعبد ليوقظوه حتى يرزقهم، ويعطيهم الطعام والشراب! هذا هو إلههم، والذي يفعل هذا عالم بالمخ والأعصاب، ومع ذلك إذا ذهب إلى هذا المعبد نسي وذهب عنه عقله، فيذهب يوقظ إلهه الذي أعطاه صفة من صفات البشر وهي النوم والغفلة، فالإله نائم، حتى يأتي هو ليوقظه ويطلب منه ما يريد.
وقد قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، فهو إله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وهي الغفوة البسيطة، فلا تعتريه أبداً سبحانه، وَلا نَوْمٌ ولا ينام، وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام -سبحانه وتعالى- يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فالله لا يغفل ولا ينام سبحانه وتعالى.
فإن الكفار غاروا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحاروا في أمره عليه الصلاة والسلام، ونفسوا عليه ما هو فيه من رسالة ربه سبحانه، وأبوا أن يدخلوا معه في هذا الدين، كما قال تعالى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، من الدخول في دين التوحيد، فحسدوه على أن آتاه الله ذلك، مع أن هذا لم يكن بيده، ولم يكن يمن عليهم به، وإن كان فيه المن، وإنما كان يقول عن نفسه: إنه رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى عن نبيه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: لا تعرف هذا الدين، وليس عندك أي فكرة عنه، وإن كان قبل أن يبعث وقبل أن ينزل عليه الوحي على غاية عظيمة من مكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام، فكان لا يذهب إلى أصنامهم كما يذهبون، وإنما كان يبتعد عنها، ويعرف أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان لا يعرف ما هو دين الله سبحانه، كما قال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] أي: عن دين الله، والذي دلك على هذا الدين هو الله؛ بخلاف البعض منهم كـورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، اللذين ذهبا يبحثان عن الدين الحق، فأما ورقة بن نوفل فتعلم النصرانية ودخل فيها. وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقال: والله يا رب! إني لا أعرف أي الطريق أحب إليك، ولو أني أعرفها لتوجهت إليك بها، فكان هذا على دين، وهذا على دين.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعل مثلهما، وما كان يعرف ذلك، قال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وكان غيره قد سمع من اليهود والنصارى أن هذا العصر وهذا الزمان وهذه السنين التي نحن فيها سيظهر فيها نبي، وتنزل عليه الرسالة، وقد كان اليهود يقولون ذلك، ويستفتحون على الذين كفروا، فكانوا يقولون لهم: سيأتي نبي وسنقاتلكم معه، وكان المشركون يتساءلون: هل سيظهر نبي أم لا؟ وهل اليهود سيصدقون أم يكذبون؟
وبعض هؤلاء مثل أبي عابد الراهب لما سمع ذلك قال: لماذا لا أكون أنا هذا النبي؟ فذهب يتعبد وينتظر أن تنزل عليه الرسالة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان يجهز نفسه لشيء من ذلك، ولكن كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يجهزه.
فلما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم كفر أبو عابد الراهب واشتد كفره، وفسق في هذا الدين أشد الفسق، وبعد عنه أشد البعد، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بـأبي عامر الفاسق؛ لأنه كان يتعبد في الجاهلية ويبحث عن الدين، فلما جاء الدين الحق نفس على النبي صلى الله عليه وسلم ما آتاه ربه سبحانه وتعالى، وغار وتغيظ عليه وأبى أن يدخل في دينه.
وآخر كان ينتظر أن تنزل عليه الرسالة -وهو أمية بن الصلت- ويظن أن يكون هو الرسول، وكان يقول لمن حوله: أنا الذي سوف أكون رسولاً في هذا الزمان. فقابله أبو سفيان بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما تقول في محمد؟ وقد كان أبو سفيان كافراً. فقال: أما الرسالة فهي، وأما هو ففي نفسي شك منه.
يعني: هذه الرسالة هي من رب العالمين فعلاً، وهذا هو الناموس فعلاً، وأما أن يكون هو النبي ففي قلبي شيء منه.
سبحان الله! وهل ستنزل الرسالة على غير مرسل؟ فإذا كان قد عرف أن الرسالة صحيحة، وأنها قد جاءت من رب العالمين، فقد كان الأولى به أن يصدق أن محمداً هو رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، وعندما جاءته الوفاة قال لمن حوله: أما الرسالة فهي، وأما أنه هو ففي قلبي منه شيء. ومات الرجل على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد كان شعره ممتلئاً بالتوحيد، وكان يتكلم بالتوحيد في أشعاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أشعاره وقال عنه (آمن شعره وكفر قلبه)، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، بيده مقاليد كل شيء.
فالمقصود: أنه غار المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه، فأمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتجمعوا حول هذا الدين، ولا يتفرقوا عنه، فالمشركون إنما فعلوا ذلك بغياً منهم على المؤمنين، وليس لشيء آخر.
قال الله سبحانه وتعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي أي: يختار ويصطفي وينتقي ويأخذ من يشاء من عباده، فيجعله رسولاً ونبياً، فالخيرة لله سبحانه وتعالى، وليس لكم الخيرة، وليس الاختيار إليكم أنتم، وإنما الخيرة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)، وقد اجتبى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، واختاره لأن يكون رسولاً من صغره عليه الصلاة والسلام، فرباه سبحانه وتعالى ليعرف أن الفضل من الله وحده عليه، وليس لأحد فضل عليه، صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ينظر إلى أصنامهم هذه أنها لا تستحق أن تعبد، وكان أصدق الخلق وأأمن الخلق عليه الصلاة والسلام، وكان أحب الخلق للخلق عليه الصلاة والسلام، حتى إن الكفار كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يذهب إلى مكان إلا وأحبه أهل هذا المكان صلوات الله وسلامه عليه، وفي يوم من الأيام وهو صبي صغير صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحملون الحجارة، فكان يحملها معهم على منكبه صلى الله عليه وسلم، فيقول له عمه أبو طالب : يا ابن أخي! ضع ثوبك على كتفك، يشفق عليه، أي: بدلاً من أن تلبس ثوبك إزاراً ضعه على كتفك، وضع الحجر عليه، حتى لا يؤذي الحجر كتفك، وقد كان لابساً لإزاره صلى الله عليه وسلم، وهو طفل صغير، وكان عند المشركين أن الكبير إذا تعرى فلا شيء في ذلك عندهم، فإذا به يخلع إزاره صلى الله عليه وسلم، ولم يكد أن يفعل حتى غشي عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإذا بالملك يقول له: خذ عليك إزارك. صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ربه يربيه وهو صبي صغير على ألا يتكشف، فلما كبر عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبول جلس وبال، وكان من عادتهم أن يبولوا قائمين، فلما كان هو يجلس كانوا يتعجبون منه ويقولون: انظروا إليه، يبول كما تبول المرأة، لأنه كان يستتر صلوات الله وسلامه عليه. وقد جاء الدين بذلك فكان هذا من سننه صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد البول جلس ولم يقف؛ حتى لا يترشش عليه بوله، فيبول جالساً، فهذا مما علمه ربه سبحانه وتعالى وأدبه عليه.
ثم نزل عليه القرآن فكمله بذلك سبحانه وتعالى، وقد سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: (أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، ولكن أسأل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: كان خلقه القرآن)، فكان كل ما في القرآن يطبقه صلوات الله وسلامه عليه، فكان خلقه القرآن صلوات الله وسلامه عليه.
وهو لم يجهز نفسه لأن يكون رسولاً يوماً من الأيام، وإنما ربنا سبحانه هو الذي جهزه وهو الذي أعده وهو الذي امتحنه لذلك، صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا [الضحى:6]، أي: لا أب ولا أم، وإنما كفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب بعد ذلك، فكان وحيداً عليه الصلاة والسلام، ثم فتح الله عز وجل عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً -أي: برجل واحد وهو هو عليه الصلاة والسلام- وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، فالذي علمه هو ربه وقال له: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، أي: عندك عيال وتحتاج إلى المال، وكنت فقيراً، فهو لم يرث شيئاً من أهله عليه الصلاة والسلام، وكان أهله أصحاب شرف، وكان له هو أيضاً شرف صلى الله عليه وسلم، وله قدر، وأما المال فلم يكن لديه مال، فقال له ربه: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:8]، أي: أن الله سبحانه وجدك صاحب عيال فأغناك، فقد أغنى قلبك فكنت غنياً بالرضا والقناعة، وأغناك فأعطاك مالاً، فعمل بالتجارة فكان له مال صلوات الله وسلامه عليه، وعمل عند إحدى شريفات البلد، وهي السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم اختارها لتكون زوجة له بعد ذلك، فكانت سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها.
فهذه التربية من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول له: إن ربك وجدك يتيماً فآواك، فكن كذلك مع الأيتام، فآوهم وتحنن عليهم، وربت على ظهورهم، وأعطهم من المال، وبش لهم، ولا تجعلهم في بؤس وضيق، وكن لهم بمثابة الوالد صلوات الله وسلامه عليه، فعلمه من صغره، فما عانيت منه فأعن غيرك عليه إذا كان موجوداً فيه، فكان أرحم الخلق بالخلق صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، أي: كما هداك الله -والمنة له وحده- فاهدِ الناس ودلهم على دين الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا [الضحى:8]، أي: إنك قد ذقت الفقر ثم أغناك الله سبحانه وتعالى، فإذا آتاك الله مالاً فأنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً. فكان ينفق النفقات العظيمة، حتى إن الرجل ليأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا محمد! يا رسول الله! أعطني. فيقول: انظر ما بين الجبلين، فيجد أغناماً، فيقول: خذها فهي لك)، فيذهب الرجل فرحاً يأخذ كل ما بين الجبلين، وينطلق بها إلى قومه من المشركين ويقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. صلوات الله وسلامه عليه، وكان إذا فتح الله عز وجل عليه وقسم الغنائم على الناس كان له خمس الغنيمة، وله خمس الفيء، فكان يأخذ منها نفقة بيته صلوات الله وسلامه عليه، ثم ينفق الباقي على المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الشورى الآية [13] للشيخ : أحمد حطيبة
https://audio.islamweb.net