اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح مناسك الحج [2] للشيخ : محمد حسن عبد الغفار
والسنة أن يغتسل مثل غسل الجنابة، فيغسل يده ثم فرجه، ثم بعد ذلك يغسل يده ثلاثاً، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغسل رأسه ثلاثاً، والنساء شقائق الرجال في الأحكام، والسنة في غسل الرأس ما ثبت عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يغسل شق رأسه الأيمن ثلاثاً، والشق الأيسر ثلاثاً)، ثم يصب الماء على رأسه كله ثلاثاً، كما قالت عائشة : (وكان يحثو على رأسه ثلاث حثيات)، ثم يصب الماء على شقه الأيمن ثلاثاً، ثم على شقه الأيسر ثلاثاً، ويكون بذلك قد أتم الغسل.
وينبغي للمسلم ألا تمر عليه أربعون يوماً إلا ويقلم أظفاره وينتف إبطه ويحلق عانته.
وهناك خلاف بين العلماء: هل يجوز استدامة الطيب أو لا يجوز؟ والراجح أنه يجوز، والأصل في المسلم أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيتطيب بدهن العود أو المسك أو أي طيب آخر، ثم يدهن به رأسه، فعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم). فيتطيب ثم بعد ذلك يرتدي ملابس الإحرام.
الأول: أنه بعد أن يسلم يقول: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قالوا: (أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سلم).
والحديث الثاني : (أحرم النبي صلى الله عليه وسلم عندما استوى على الدابة)، فقد سمع أناس النبي صلى الله عليه وسلم عندما ركب على الدابة يقول: (لبيك اللهم بحجة وعمرة وهو مستو على دابته).
والحديث الثالث: عندما استوى على البيداء، وهو متجه إلى مكة راكباً.
والأفضل أن يحرم بعد أن يسلم فيقول: لبيك اللهم بعمرة، وهذا هو الأصح؛ لأنه إذا قال: لبيك اللهم بعمرة بعد أن يسلم يدخل وقت الإحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـعائشة : (أجرك على قدر نصبك ونفقتك)، وهذه قاعدة قعدها العلماء فقالوا: يعظم الأجر على قدر المشقة؛ ولذلك كلما كان البيت أبعد عن المسجد كان الأجر أعظم، وكل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال مبيناً فضل الجمعة: (من غسل واغتسل وذهب إلى الجمعة ماشياً ولم يركب، ثم دنا من الإمام فأنصت ولم يلغ؛ كتبت له كل خطوة بأجر سنة صيامها وقيامها).
فبعد أن يسلم يقول: لبيك اللهم بعمرة، وإن كان الأيسر على المرء أن يحرم بعد أن يستوي على الدابة فله ذلك، وهذا أيسر له؛ لأنه قد ينسى فيأخذ من أظفاره أو يأخذ من شعره أو يتطيب مرة ثانية، فيكون الأيسر له أن يحرم عندما تستوي به الدابة على الطريق، فيقول: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج.
وهل يصح أن يقول المصلي: نويت أصلي فرض الظهر الذي فرضه الله علي بعدما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاود ربه بخمسين صلاة فأصبحت خمس صلوات؟ الجواب: لا، فإن قيل: الصلاة بدون نية باطلة، قلنا: النية في القلب، وقد سمع ابن عمر رجلاً يقول: لبيك اللهم بعمرة أتمتع بها إلى الحج فقال: اسكت، أتعلم ربك بما في صدرك؟! لكن الصحيح الراجح أن يتلفظ بها؛ لأن ابن عمر غاب عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن -بسند صحيح- أنه قال: (جاءني جبريل فأمرني أن أصلي في هذا الوادي المبارك -وهو وادي العقيق- وقال: قل: عمرة في حجة)، ولما أهل النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بالإهلال، والتلبية ليست هي النية، فلو أن إنساناً لم ينو الحج، وقال: لبيك اللهم بعمرة، فهو غير محرم، وله أن يمس الطيب وله أن يفعل كل شيء؛ لأنه لم يدخل في النسك، فلا بد من عقد القلب على النسك، فالنية تسبق التلفظ، ثم يقول: لبيك اللهم بعمرة، فتحرم عليه محظورات الإحرام.
وحديث ابن عمر يجمع لنا محظورات الإحرام، وهو: (لا يلبس المحرم البرانس ولا القمص ولا العمائم ولا السراويل ولا الخفاف ولا ثوباً مسه زعفران ولا ورس).
فالعمامة تحيط بالرأس، والسراويل تحيط بالوسط وبالفخذ وبالرجل، والقميص يحيط بالبدن.
وقال الفقهاء: يحرم كل مخيط محيط، ففهم بعض الناس أنه يحرم لبس كل ما فيه خيط، وهذا فهم خاطئ، فالمسألة لا تتعلق بالخيط، وإنما تتعلق بالإحاطة، فالسراويل تحيط بالفرج وبالرجل وبالساق، والقميص يحيط بالأعضاء كلها، فكل محيط بالعضو لا يجوز لبسه، حتى ما يوضع على مفصل القدم والساق عند الكعب لا يجوز لبسه؛ لأنه أحاط بالكعب.
بينما النعل العادي يصح لبسه لأنه لا يحيط بالعضو، أما الخف فيحرم على المحرم لأنه محيط بالقدم، إلا إذا لم يجد النعل، وكذلك السراويل لا تجوز للمحرم إلا إذا لم يجد الإزار.
ويحرم على المحرم لبس الثوب الذي مسه زعفران أو ورس، بمعنى أنه يحرم عليه الطيب.
والحديث الثاني الذي يبين محظورات الإحرام: حديث كعب بن عجرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه والقمل يتناثر على وجهه فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى، احلق رأسك، ثم خيره بين أن ينسك شاة أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين)، فيحرم على المحرم حلق الرأس، وقاس العلماء شعر البدن كله على شعر الرأس، ومنهم من قال: يحرم عليه حلق ثلاث شعرات، ومنهم من قال: أربع، والصحيح الراجح أنه لو وقع منه ثلاث أو خمس شعرات من غير أن يكون قاصداً فلا شيء عليه.
ويحرم عليه الطيب، ويحرم عليه قلم الأظفار بجامع الترفه والتمتع، ويحرم عليه أن يرتدي ثوباً يحيط بجسده، أما لبس النظارة فيجوز، ويجوز حمل الأمتعة فوق الرأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وكثير من الصحابة أجازوا ذلك.
وهذه المحرمات تحرم على المرأة كما تحرم على الرجل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)، فالمحرمة لا تلبس القفازين، وكذلك الرجل لا يلبس القفازين؛ لأن القفازين يحيطان بالكفين، وهو مثل ما يلبس على الركبة، فلا يجوز للرجل لبسها؛ لأنها تحيط بالركبة، فإن كانت ركبته تؤلمه واحتاج إليها فله أن يلبسها وعليه شاة أو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.
فالمرأة لا ترتدي القفازين ولا تنتقب، وإذا خشيت أن يرى وجهها أحد من الأجانب فترد خمارها على وجهها، وتبعده عن الوجه بقدر استطاعتها، ولو أن ترتدي شيئاً يبعده عن وجهها، وإذا انتقبت أو أسدلت الخمار لغير حاجة فعليها فدية.
فبعد الانتهاء من الطواف ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المقام فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، ومقام إبراهيم فيه أثر قدم إبراهيم على الحجر،ولا يقبل المقام ولا يمسه، فهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمصلي يجعل المقام بينه وبين الكعبة، فيصلي ركعتين يقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وليعلن الاستسلام التام، والخضوع والتذلل التام لله جل وعلا.
وفي الثانية يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لبيان التوحيد، كما قال عمر وهو يقبل الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، وهذا فيه رد على المتنطعين العلمانيين الذين لا يعرفون عن دين الله شيئاً فيقولون: إن المسلمين يطوفون حول حجارة! والجواب: أنا فعلنا ذلك استسلاماً وخضوعاً لله جل وعلا، ومن المعلوم أنه لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد، وأنه شرك وكفر، ولكن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك شركاً منهم؛ لأنهم سجدوا له استسلاماً وخضوعاً لأمر الله جل وعلا، ونحن كذلك نطوف ونقبل الحجر ونقول: والله إنا لنعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكنا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ففعلنا مثل ما فعل، تذللاً وخضوعاً واقتداء وتأسياً به صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن يصلي ركعتين يذهب إلى بئر زمزم ليشرب من مائه بنية وهو مستيقن بالله؛ لأن كثيراً من الناس لا يفهمون هذه القاعدة، فتجد أحدهم يقول: أنا لي كذا سنة أشرب من ماء زمزم، ولم يتحقق لي مطلوب، فنقول: السيف بتار لكن القابض على السيف ضعيف، فالمسألة كلها مسألة يقين بالله جل وعلا، فعلى المسلم أن يكون صادقاً مع ربه، يعلم أنه لو أخذ بالسبب الصحيح فإن الله سيصدقه.
وكما قيل: اصدق الله يصدقك.
فيشرب من ماء زمزم وينوي إما نصرة هذا الدين، أو من أجل أن يقترب من أهل الخير، ويترافقوا على الخير نصرة للدين، ثم من أجل تفريج الكربات، فالله جل وعلا يعطيه ذلك إن كان صادقاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وأيضًا يقول: (هو طعام طعم وشفاء سقم) ثم بعد ذلك يذهب إلى الحجر مرة ثانية، فيستلمه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا ما استطاع، فقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فإذا نوينا أن نحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم وما استطعنا، فالله جل وعلا يكتب لنا الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
بدون أن يؤذي الناس، هذا بالنسبة للرجال، أما النساء فلا يسرعن وإنما يمشين المشي المعتاد، فالصحيح الراجح أن المرأة تخالف الرجل فليس لها الإسراع، أما الرجل فإنه يسرع حتى يصل إلى الخط الأخضر الثاني، ثم يمشي مشيه المعتاد، فإذا وصل إلى المروة وقف عليها، لكنه لا يقرأ الآية التي قرأها في الصفا، وكذلك في الشوط الثاني أيضاً لا يقرأ هذه الآية، فهي تقرأ في الشوط الأول فقط.
فيسعى سبعة أشواط على هذه الكيفية بين الصفا والمروة، يبدأ من الصفا، وينتهي من الشوط السابع في المروة، ثم يقصر الرجل من شعره، والأفضل الحلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين، اللهم ارحم المحلقين، اللهم ارحم المحلقين)، لكن لأن المصالح تتعاظم، فإن القاعدة عند العلماء تقضي بأن نترك المساحة الصغرى للمساحة الأكبر، والمساحة الأكبر أنك تبقى الحلق إلى يوم النحر، فيقصر المرء من شعره على المروة، ويكون بذلك قد تحلل بفضل الله جل وعلا من عمرته، فيبقى في مكة متحللاً، فيجوز له مس الطيب، ومجامعة النساء، وكل شيء حرم عليه حال الإحرام، حتى اليوم الثامن فيهل بالحج.
والتقصير هذا لابد أن يعم كل الرأس؛ لأن الله جل وعلا قال: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] فرءوس هنا مضاف، وإذا أضيفت عمت كل جزء منها، فلا يصح أن يأخذ من بعض شعره، أو أن يأخذ من هنا وهنا، ولا يعمم التقصير في كل الرأس، ومن فعل ذلك فربما لا يزال محرماً فليرجع وليلبس ثياب الإحرام ويقصر رأسه كله.
أما بالنسبة للمرأة فإنا لا تقصر رأسها أمام الناس، وإنما تصبر إلى أن تذهب إلى بيتها، أو إلى المقر الذي تجلس فيه في مكة، ثم تقصر هناك، وهذا من باب التقوى والورع، فتأخذ شعرها وتجعله في قبضة يديها، ثم تأخذ منه قدر أنملة، أي: قدر الأصبع، فبذلك تكون بفضل الله تعالى قد تحللت وتمت عمرتها.
ويعلم الله أن أشد فتنة رأيتها في الحرم هي النساء، فتجد الرجل يسجد على المرأة، وهي تسجد عليه، وتساوي معه الصفوف، وأخرى مريضة تخلع ثيابها وتغتسل بماء زمزم، وترى الرجل يصلي والمرأة أمامه، فتركع وتسجد أمامه، ثم يأتي الشيطان فيزينها له. فيجب على المرأة أن تلتزم بقول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] وإذا ذهبت إلى الحج فإنها تذهب لتؤدي المناسك، ولتعلم أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد الحرام، وخير لها من صلاتها في المسجد النبوي، وهذا ليس قولي، بل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، ثم قال: وصلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدي هذا) ونفس الأمر فإن صلاتها في المكان الذي ستنزل فيه خير لها من الصلاة في المسجد الحرام، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)، فالأكمل والأصح والأتقى والأورع للمرأة أن تجلس في بيتها، وإنما تأتي لتجاهد في المناسك، وهي بذلك أرفع درجة عند الله من اللاتي ذهبن إلى البيت الحرام فزاحمن الرجال ففتن وفتن.
ويكثر من الدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن ذلك من النصيحة لله، وقد ورد في صحيح مسلم : (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرفق واللين، فإذا نصح المسلم فليكن هيناً ليناً، فتدعو إلى الله وينصح حتى وإن قيل له: لا جدال في الحج، فليقل قولاً معروفاً، ولا ييأس، والمقصود بلا جدال في الحج: لا جدال على باطل، أما هذا الجدال فهو حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجدال المنبوذ الجدال على باطل)، أما الجدال على الحق فإنه لا ينتهي إلى يوم القيامة.
ثم بعد ذلك يهذب إلى جبل الرحمة إن استطاع ووجد إلى ذلك سبيلاً -ولا يجب عليه أن يصعد الجبل- فإن لم يستطع أن يصل إلى ذلك فمن السنة أن يستقبل القبلة ويدعو الله بما شاء، والأفضل ألا يقترب من أحد، كامرأته أو ابنه أو أخيه أو غيرهم؛ ليخلو بربه، وهؤلاء قد يشغلوه عن الدعاء والتضرع. فليدع الله وليتضرع بين يديه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله على راحلته، وهذه هي السنة، فلو استطاع أن يحمل كرسياً ليقعد عليه وقت الدعاء فهذا أفضل؛ لأن هذا سيكون أيسر حتى يطيل في الدعاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو طويلاً وهو على ناقته، وخطام الناقة يسقط منه فيأخذ بيده والأخرى مرفوعة إلى السماء.
فليدع الإنسان ربه طويلاً، ولا يتوان في الدعاء، فهذا الموقف هو موقف استجابة الدعاء، وموقف المباهاة بعباد الله، وموقف عتق من النيران.
اللهم اجعلنا جميعاً من عتقائك من النار.
بعد ذلك ينام حتى الفجر، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي الفجر، ثم يذهب إلى المشعر الحرام، أما الضعفاء فإنهم يدفعون بعد غياب القمر، فإن وجد مثلاً رجل شديد وامرأته ضعيفة، فيغلب حكم الضعيف، كما في الحديث الثابت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء، لكن أمرهم ألا يرموا حتى تطلع الشمس) هذا خاص بالرجال، أما النساء فلهن أن يرمين قبل الفجر، والصحيح الراجح جواز الرمي قبل الفجر للكل بعد غياب القمر، أما الشديد الذي يريد أن يستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصلي الفجر في مزدلفة، ثم يذهب إلى المشعر الحرام فيدعو الله كثيراً -وهذا أيضا موقف من مواقف استجابة الدعاء- حتى يسفر، أي: يختلط بياض النهار بسواد الليل، حتى يكون البياض هو الذي عم كل السماء، قبل أن يظهر قرص الشمس، ثم بعد الإسفار يدفع مباشرة إلى منى، ولا يلزمه أن يلتقط الحصى من مزدلفة، بل يجوز أن يأخذ الحصى من منى، ولكن إذا تيسر له بعد أن يدعو الله جل وعلا وهو يدفع إلى منى أن يلتقط الحصى فله ذلك، وإذا فعل ذلك فلا يلتقط عدداً كبيراً من الحصيات للأيام كلها، بل يلتقط سبع حصيات فقط، ومن زاد على ذلك فقد خالف السنة، وله أن يأخذ واحدة أو اثنتين احتياطاً إذا خشي أن تضيع منه بعض الحصيات.
فيرمي سبع حصيات كالحصى الخذف، يعني: هذه الحصى تكون كالحمص أو فوق الحمص قليلاً، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عند رمي أول حصاة، وليعلم أنه لا يرمي الشيطان، ولا يرمي أحد، وإنما هذا منسك من مناسك الحج. فيجب على الحاج أن يقف الوقفة الصحيحة، ويرمي ولا يسأل أحداً بعد ذلك بأن الحصيات لم تقع في الحوض، أو نحو ذلك، فإن الله جل وعلا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذه هي استطاعتك، إلا إذا كان هذا الحاج مستيقناً أو غلب على ظنه أن واحدة من الحصيات لم تنزل في الحوض، أو أنها ضربت في الشاهد وخرجت -لكن لو ضربت في الحوض ثم خرجت فهذه صحيحة- ففي هذه الحالة عليه أن يعيد رمي هذه الحصاة.
فإذا رمى فليذهب لينحر، أو يشهر النحر -ووقت النحر يمتد إلى ثالث أيام التشريق- ثم يذهب إلى الحلاق فيحلق.
وهذا الترتيب هو الترتيب السني بالنسبة للتقديم والتأخير، وقد جمعوا هذا الترتيب السني في هذا اليوم بكلمة (رنحط)، يعني: رمي ثم نحر ثم حلق ثم طواف، أي: طواف الإفاضة، وهذا الترتيب هو الأفضل لمن استطاعه، أما الذي لا يستطيع ذلك فلا شيء عليه إن قدم أو أخر؛ لأن النبي النبي صلى الله عليه وسلم (جاءه أحدهم يقول: طفت قبل أن أنحر، قال انحر ولا حرج، وجاء آخر فقال: سعيت قبل أن أطوف، فقال: طف ولا حرج، وآخر قال: رميت قبل أن أحلق، فقال: ارم ولا حرج) فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج)، فأي إنسان يرى أن السهل عليه أن يسعى قبل أن يطوف فليسع، أو أن يطوف قبل أن يسعى فله ذلك.
ثم بعد ذلك إذا فعل هذه الثلاثة يكون قد تحلل، بل يقول بعض أهل العلم: إن الرمي وحده يكفي في أن يتحلل بذلك، أما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه لا بد أن يرمي ثم يحلق أو يطوف حتى يتحلل، والأحوط -خروجاً من خلاف الفقهاء- هو أن يرمي ويحلق، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب قبل أن يطوف؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكنت أطيبه بعد أن يحل قبل أن يطوف بالبيت)، فيتطيب ويغتسل ويحل له كل شيء إلا النساء، وهذا هو التحلل الأول فإذا طاف بالبيت سعى بين الصفا والمروة، وهذا واجب، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إنه لا حج لمن لم ير السعي بين الصفا والمروة، ويخالف طواف الإفاضة مع السعي، طوافَ القدوم، في الرمل والاضطباع، فإنهما خاصان بطواف القدوم أو العمرة، أما طواف الإفاضة فلا رمل ولا اضطباع فيه، فيمشي ويقول ما قلنا في طواف العمرة من الأدعية والأذكار، فإذا فعل ذلك حل له كل شيء، وهذا يفعله وجوباً، والواجب هو الذي لو ترك سهواً أو نسياناً فلا شيء على صاحبه، كما لو كان يمشي بالسيارة ولم يصل إلى منى إلا فجراً، فهذا ليس عليك شيء، فإن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالمحظورات هذه من ارتكبها بخطأ -بدون عمد- أو بسهو أو بنسيان فلا شيء عليه.
ثم في اليوم الثاني -يوم الحادي عشر، وهو أول أيام التشريق- فالسنة أن ينتظر حتى الزوال ثم يرمي، وهذا أيضًا وجوباً، وقد يفتي البعض بأنه يجوز أن يرمي بعد الفجر، أو بأي وقت قبل الزوال، ويحتج هؤلاء بأن ديننا يسر، فأقول صحيح أن ديننا يسر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تصفه عائشة رضي الله عنها فتقول: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، ولكنه قد بين ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف عند الجمرة يتحين الزوال، فإذا زالت الشمس رمى) فلو كان الأيسر على الأمة أن يكون الرمي قبل الزوال لرخص النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتحين وقت الزوال، فإن ذلك يعني أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال، أما الإحتجاج بعدم القدرة وخاصة النساء والشيوخ، وذلك بسبب كثرة الناس. فالجواب عليه أن الرمي لا يختص بوقت الزوال فقط، وإنما يمتد إلى فجر اليوم الثاني، وبذلك يكون الإنسان قد عمل بالسنة، وأمن على أهله وولده، ورمى وهو يستشعر أنه طائع الله جل في علاه.
ومن السنة أيضًا أن ينزل بعد أن يرمي إلى مكة ويطوف بالبيت ثم يرجع يبيت في منى، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا لم يستطع فله أن يجلس في منى الثلاثة الأيام، إن أراد التأخير -وهو الأفضل- قال تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].
فإذا تأخر إلى اليوم الثالث رمى أيضًا بعد الزوال، ويجوز أن يرمى عن الأولاد وعن الزوجة أيضًا إن لم تستطع، فمن فعل ذلك في اليوم الثالث فقد تم حجه، وقضى تفثه، وأتم السنن والمستحبات والواجبات.
ويبقى أن ننبه على أمر قد أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عباس أنه قال: (أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الحاج أن يكون آخر عهده بالبيت)، فطواف الوداع لا يجوز تركه، ومن تركه فعليه دم.
هذه إجمالاً أحكام الحج جميعاً، وصلنا إلى نهايتها، ونسأل الله أن يلهمنا الإخلاص، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح مناسك الحج [2] للشيخ : محمد حسن عبد الغفار
https://audio.islamweb.net