إن موضوع مس الجان قد فشا وانتشر بين الناس، وغلا فيه البعض حتى تصدر لعلاج المرضى والمصروعين من ليس من أهل العلم والإيمان، فكان ضررهم أكثر من نفعهم، وأرادوا الخير فوقعوا في الشر، بل أصبح يدور بمخيلتهم أن كل مرض سببه المس.
وبالمقابل أنكر أقوامٌ الجن جملة وتفصيلاً، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، فالجن عالم له أثره الملموس، وقد يصيبون الإنسان بالمس لكن ليس بهذه الصورة التي يتخيلها كثير من الناس.
رسالة إلى المعالجين بالرقية
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.أما بعد: فقد كثر الحديث منذ فترة ليست بالقصيرة عن قضية تسلط الجن وتلبسهم بالإنس، وكذا عن السحر والحسد وما إلى ذلك، وهي أمور واقعة لا شك فيها ولا سبيل لإنكارها، كما فعل ويفعل بعض المنسوبين إلى العلم ممن يدعون العقلانية في القديم والحديث، كما أنه قد كثر عدد المشتغلين والمهتمين بهذا الأمر ممن يسعون لعلاج الحالات الواقعة بالوسائل الشرعية المباحة، وهذا أمر حسن إذا تم الوفاء به، حتى لا يضطر الناس للذهاب إلى السحرة والدجالين والمشعوذين.ولكن غير الحسن: أن تتسلط فكرة الجن على عقول وقلوب كثير من الناس، فإذا ما اشتكى إنسان أو أصيب بشيء من الأدواء صاح الناس على الفور: الجن!! العين!! السحر!! وهذا بدوره قد أنشأ العديد من المشكلات غير اليسيرة، والتي يخشى منها، وقد يزداد الأمر سوءاً عندما يتدرج البعض في هذه الأحوال إلى أن يصبح الأمر بمثابة حرفة من الحرف، وشيئاً فشيئاً حتى يتدخل الشيطان -هذا إذا أحسنا الظن وقلنا: إنه لم يتدخل منذ البداية- فيعمل عمله في القلوب، وتتبدل النوايا، فكم من عورات كشفت، وأموال أخذت بالباطل، بل وأعراض هتكت أو كادت، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.وهنا تظهر الآفات، والآفات تولّد آفات، والأمراض تنتج أمراضاً من المباهاة والسمعة، وإخلاف الوعد، والخداع، والجشع، والتحايل في كسب المال، ومهما خاب العلاج المزعوم ولم يأت بشيء، فالمخرج من الأمر سهل ميسور؛ فإن كان قد زعم من خلال ما يهذي به المريض أنه قد أخرج جنّياً أو أحرقه، فالمخرج موجود، هو وجوداً ثان وثالث ورابع ومائة...، فإذا احترق الجني جاءت أمه ثم أبوه وأخوه، وهكذا الذي يخرج يأتي آخر بدلاً عنه، بل إن البعض قد يرغب في الاستكثار والتشبع بما لم يُعط، فيلجأ إلى بعض الكتب، ويتوسع في استخدام ما فيها من طرق للعلاج، وقد تكون من السحر الحرام! وقد اعترف البعض بذلك، إذ يبدأ طريقة بالعلاج بالقرآن والأذكار، وبمرور الأيام -ومع قلة العلم الشرعي- يتوسع شيئاً فشيئاً في استخدام السحر والطلاسم؛ لأنه يرى أن هذه الأشياء من جنس النشرات والتعويذات التي قد تبدو مبهمة، وهي موجودة ومصرح بها في بعض كتب أهل العلم، فإلى الله المشتكى من هذا الصيد الخبيث باسم الدين، فالكل يصطاد ويتصيد، ولكن الشباك تختلف وتتنوع، إلا من رحم ربك!توشك العين تغيظ والبحيرات تجف بعضها يصطاد بعضاً والشباك تختلفلا يجيء الباب رأساً لا يدور أو يلف والطبيب قد يعف والكبير لا يعف والإمام قد يسف والصغير لا يسف والثياب قد تصون والثياب قد تشفوالبغي قد تداري سهمها وتلتحف والشتات لا يزال يأتلف ويختلف والخطيب لا يزال بالعقول يستخف والقلوب لا تزال للشمال تنحرفوالصغير بات يدري كيف تؤكل الكتف لا تصانع يا صديقي بالحقيقة اعترففإلى هؤلاء المعالجين نقول: يا قوم! اتقوا الله تعالى في أنفسكم، ولا تكونوا ذباب طمع، وفراش نار، اتقوا الله في أعراض الناس وأموالهم، اتقوا الله في دين الله المفترى عليه، واحذروا الحرام والبدع والشبهات، ولا تكونوا جُرآء على النار، ولا ينطبق عليكم قول الشاعر: طبيب يداوي الناس وهو سقيمُ!وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، إن كنتم تريدون حقاً إخراج الشياطين، فتعاونوا جميعاً على إخراج شياطين الإنس من جسد هذه الأمة، أخرجوها بالعمل النافع، وبالعبادة الصالحة لله تبارك وتعالى، وبالدعوة الحكيمة، والعمل الدءوب إلى الله جل وعلا. في عالم الأزياء موضات وصيحات وتقليعات، وكذلك في عالم الأفكار والدعوات تقليعات وصيحات وموضات! يفرضها علينا مرض الفراغ.قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهذه الظاهرة التي نريد أن نعرف إلى أين تمتد، ما كان لها أن تنتشر بهذه الصورة الوبائية لولا الفراغ والخواء الذي ملأ القلوب، فوجد الشيطان فيها أرضاً خصبة، فصال وجال، وبذر وزرع وحصد!إن الشباب والفراغ والجدهمفسدة للمرء أي مفسدهوبعدما كان الجدل حول الجن والسحر والحسد من التخصصات الشائعة في جيل العجائز الأميّات والنساء الفارغات، بحيث كان من خصائص المجتمعات النسائية الجاهلة، وكان يستنكف الرجل من الخوض فيه ترفعاً عن خصائص النساء، تمكنت طائفة ممن يسمون بالمعالجين من تصديره إلى مجتمع الرجال، شباباً كانوا أو شيوخاً أو مراهقين، بل صِبية! بل احتل أو بالأحرى اغتصب مساحة شاسعة من رقعة الدعوة إلى الله لتهدر طاقة بعض الدعاة -الذين هم صفوة الرجال- في هذا السعار المحموم، إما باقتحام هذا المجال كمعالجين، أو بالهجوم على المقتحمين، ولا أظن أنه أدل على هذه الحقيقة المؤلمة من تشوق الناس بكثرة للاطلاع حول هذا الموضوع.إن موضوع السحر والمس وما يتعلق بالجن قد تسلط على العقول، واحتل القلوب بصورة مفزعة، فما أسرع ما تشير أصابع الاتهام إلى المس الجنّي بمجرد أن يعاني الإنسان من صداع أو ألم أو مشكلة نفسية عادية!ولن يكون حديثنا حول القضايا المسلّم بها، كقضية إثبات وجود الجن مثلاً، أو إثبات الصرع والمس وحقيقة السحر والحسد، ولا حتى تلقين طائفة المعالجين مبادئ التعامل مع حالات الصرع والحسد والسحر، فلقد طُرقت هذه القضايا كثيراً، وأُشبعت بحثاً، وامتلأت رفوف المكتبات بالغث والسمين منها، ولكنها وقفة معالجة مع طائفة المعالجين الذين صار العلاج بفضل جهودهم مرضاً وبائياً! والذين تجاوزوا أحياناً حدود الله، وتلبسوا بحالات من الانحراف تحوجهم إلى من يأخذ بأيديهم أو يأخذ على أيديهم.ونُنبه إلى أننا لا نعمم الاتهام بهذه السلبيات التي نذكرها، فمن المعالجين قوم ذوو بصيرة وتقوى وعلم وورع، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، لكن كلامنا هنا موجه إلى فريق آخر خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فتورطوا في المخالفات، وسوف نتناول هذا انطلاقاً من منهج القرآن الكريم الذي فصل وفرق عند الكلام على اليهود: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ.. [آل عمران:75] إلى آخر الآيات، وكذلك كان الحال لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال الأعراب فقد ميز بين الصادقين المخلصين وبين المنافقين الكاذبين، فنحن نقصد من المعالجين الفريق الذين تلبسوا بهذه الأدواء التي نذكرها لا غير.بدايةً: نحن لا نختلف حول مبدأ التداوي، فقد جاء الإسلام بالعلاجات الشافية لكل الأمراض والأدواء، إما نصاً عليها وإما على سبيل الدلالة والإرشاد إليها، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تداوى وأمر الناس بالتداوي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل)، رواه مسلم . وفي صحيح البخاري مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ فقال: نعم عباد الله! تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهَرَم)، يعني: الشيخوخة.في هذا الواقع الذي نعيشه الآن، والذي أفرزه مرض الفراغ، احتار المريض بين طبيبه وشيخه، فالطبيب يجزم بكل ثقة أن هذه حالة نفسية علاجها الدواء، والشيخ المعالج يؤكد أن هذه حالة مس من الجن، وعلاجها الدعاء وطرد هذا الجان.فالغرب وتلاميذه متمادون في علومهم المادية، ومنكرون لكل ما هو غيب، وأصبحوا يتحدثون في مراجعهم الطبية عن العين والسحر والحسد على أنها أوهام وأساطير قديمة قد ملأت رءوس العامة في المجتمعات البدائية، وقد تخطاها الإنسان المتطور، وأصبح الحديث عن هذه الأشياء يثير السخرية عندهم.أما في بلاد الشرق فقد بالغ الناس في الحديث عن عالم الجن والسحر والحسد، حتى اختلطت الحقيقة بأضعافها من الخيالات والأوهام والحكايات، وعلق كل شيء في عقول العامة على الجن والسحر والحسد، حتى أن أحدهم إذا ذهب إلى الطبيب فإنه يذهب قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك إلى معالج يخلصه من الجن أو السحر أو غيرهما، وأصبح هناك الكثيرون ممن يمارسون هذه الوظيفة إن صدق بعضهم كذب معظمهم؛ لذلك نحن بحاجة ماسة إلى إيضاح الصورة، وضبط الأمور، وتخليص الحقيقة من بين ركام الخيالات والأوهام بعون الله تبارك وتعالى وتوفيقه.
ما أنزل الله من داء إلا وله شفاء
قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل). فما من شيء من الأمراض إلا وقد خلق له الله سبحانه وتعالى ما يضاده، وبلا شك أن هذا المفهوم الذي يؤخذ من هذا الحديث يؤكد فكرة النوعية، وتخصيص العلاجات للأمراض المختلفة، أي: أن هناك أنواعاً من التخصصات في علاج الأمراض، فليست كل الأمراض تعالج بنفس الطريقة كما يفعل بعض المعالجين الشعبيين، حيث أنهم يعطون نفس المادة لعدة حالات مرضية، ويتبعون نفس الطريقة في علاج جميع الحالات، وهذا تعميم خاطئ دحضه الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه، حيث بين أن (لكل داء دواء)، يعني: مختص بدفعه.وأيضاً: لما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رقىً نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله)، فهذا يؤكد أن تقدير وقوع المرض والبلاء في نفس الإنسان أو جسمه ينبغي أن يواجه بأسباب هي أيضاً من قدر الله، فالمرض يقع بقضاء وقدر، وكذلك نحن نحارب القدر بالقدر، فندفع قضاء المرض بقضاء التداوي والعلاج المناسب المختص بهذا الدواء.ولا نقاش أيضاً في لزوم الأخذ بالأسباب العادية المتاحة والأسباب الشرعية لمواجهة هذه الآفات، وهذا لا يقدح في التوكل، بل هو من التوكل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل).ولا شك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل داء دواء) فيه تقوية لنفس المريض قبل الطبيب، وفيه حث على الاجتهاد في محاولة اكتشاف أدواء الأمراض، فما من مرض إلا وله دواء إلا الشيخوخة والهرم كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى الأمراض التي عجز الطب إلى الآن عن اكتشاف دواء حاسم لها كالسرطان والإيدز وغير ذلك، فنحن نوقن قطعاً أن لها دواء، ومن الخطأ أن نقول: ليس لها دواء؛ لأنه ما من داء إلا أنزل الله له دواء، لكننا لما نعلمه بعد، فمن اجتهد ويسر له الأمر فإنه يصل إلى علاج هذه الأمراض.ولا شك أن المريض إذا تعلق بهذا الأمل الذي ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقوي نفسه، وكذلك الطبيب يجتهد في إصابة هذا الدواء والتفتيش عنه.
مسئولية الطبيب في المحافظة على النفس البشرية
ابتداء: ننبه إلى أمر هام جداً وهو: أن المحافظة على النفس من المقاصد العليا والأساسية للشريعة الإسلامية، فحفظ صحة الناس ونفوسهم ليس متروكاً للعبث، والشريعة لا يمكن أبداً أن تفتح الباب لكل من هب ودب أن يعبث بنفوس الناس وبجوارحهم وبأعضائهم بمثل هذه الصورة التي تحصل اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بتحري الحاذق من الأطباء، فقد ذكر مالك في موطئه عن زيد بن أسلم : (أن رجلاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الجرح الدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه، فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: أيكما أطب؟ -أي: أيكما أتقن للطب؟- فقال: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الدواء الذي أنزل الداء).وروي عن عمرو بن دينار عن هلال بن يساف قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يعوده، فقال: أرسلوا إلى طبيب، فقال قائل: وأنت تقول ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم، إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له دواء). فاطمئنوا ولا داعي لهذا الشعور الخفي الذي يجده كثير من الناس من التشكك في الطب، وفقد الثقة فيه، والنظر إليه نظرة احتقار وازدراء؛ فإن اللجوء إلى الطبيب في مجال تخصصه يعتبر من الأسباب العادية التي قد طولبنا بالأخذ بها إذا ألم بنا مرض أو داء.ليس هذا فحسب! بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدد في عقوبة من يتولى علاج الناس وليس له خبرة وعلم كافٍ، فلابد أن يأمن إيقاع الضرر بالآخرين نتيجة الأخطاء المهنية، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم حمل هذا المتطبب دية الخطأ، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، أي: فهو مسئول، ويعتبر جانياً إذا أتلف شيئاً من أعضاء المريض، ويؤاخذ به شرعاً.إذا كنا نحن الآن وقبل الآن ننكر على الذين يعذبون الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)، فإن كان هؤلاء من أهل النار، فما بالنا نتساهل مع أناس يمارسون أقبح أنواع الجنايات تحت اسم العلاج بالقرآن؟! وكأن كلمة (القرآن) ترس يتترسون خلفه، وحصن يتحصنون به ليستبيحوا إراقة دماء الناس وقتلهم جهلاً وظلماً وعدواناً.إذا كنا ننكر على هؤلاء الذين يعذبون الناس فما بالنا نضفي الشرعية على هذه الأفعال؟! بل هذه الجرائم وهذه الجنايات التي ترتكب باسم العلاج بالقرآن؟! وهل التستر وراء القرآن يشفع لهؤلاء الذين يرتكبون نفس الجريمة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن).
أهمية التثبت من المرض قبل العلاج
يجب أن نبين أن الظهور العلمي، والاكتشافات المذهلة في مجال الطب والعلاج، والتقدم العجيب الذي حصل فعلاً في مجال الأمراض النفسية قد اغتر به كثير ممن تربوا على طب وثقافة الغرب، وانبهروا به انبهاراً كلياً، حتى إنهم اعتقدوا أن كل شيء في هذا الوجود قد أصبح لهم واضحاً، وأن ما كان يعتقده الأولون في الماضي من حالات تلبس الجن أصبحت الآن مفهومة من خلال عملية اللاشعور التي تقوم بوظيفة دفاعية من أجل مصلحة توازن المريض.وأكثر الحالات إثارة للجدل هي حالات الهستيريا، وهي الحالات المسئولة عن هذا التشوش، فحالات الهستيريا هي نفس الحالات التي استغلها هؤلاء المعالجون الشعبيون لإثبات صحة عملهم وفاعليته، وهذه الحالات تصيب الشخصيات غير الناضجة انفعالياً، والقابلة للإيحاء في نفس الوقت، وعند عدم قدرة الطالب أو عدم رغبته مثلاً في إكمال دراسته، أو عدم تكيف زوجة في زواجها، أو نحو ذلك من الضغوط؛ فإنه يحدث نوع من الانشقاق في مستوى الوعي، فتحدث حالات الإغماء أو الصرع الهستيري، أو يتصرف الشخص بالفعل كأنه شخص آخر، ليعبر عما لم يستطع التعبير عنه في حالاته العادية، وأحياناً يغير صوته، والأطباء يعرفون هذا جيداً، كأن يكون المريض مثقفاً، وكان قد قرأ، الذبحة الصدرية، أو يعرفها، فيستولي عليه الوهم حتى أنه ليأتي بكل أعراض الذبحة وما به من ذبحة، أو يأتي بأعراض الشلل وما به من شلل، كما حصل في أول حالة هستيريا عولجت، وقد حدثت هذه الحالة في زمان الإغريق، حيث شعر شاب بأنه مشلول، وأتي به إلى المعبد كي يتعالج من الشلل التام الذي ألم به، فقام أحد رهبانهم ومضلليهم واختطف حقيبة الشاب من يده بسرعة وولى هارباً، فما كان من هذا المريض الذي كان يدعي الشلل إلا أن لحق الراهب بسرعة وبدون شعور!فأكثر حالات الهستيريا هي من حالات الالتباس التي أثرت على هؤلاء المعالجين، وسنوضح هذا الأمر إن شاء الله تعالى بالتفصيل.والشخص المعالج قد يفعل أشياء تؤكد هذا الإيحاء الذاتي الموجود عند المريض بسلوكياته، ويكون هذا المريض قد امتلأ عقله وشحن بعشرات القصص عن موضوع الجن، وسمع عدة أشرطة، وقرأ عشرات الكتب، وسمع محاضرات وأحاديث أصدقائه، ومجالس الحوار وغير ذلك، هذا إن لم يكن قد حضر حالات الجن، فهو مهيأ أصلاً لإتقان الدور تماماً، ويحفظ السيناريو -كما يقولون- من الألف إلى الياء بمنتهى الإتقان. فهؤلاء المعالجون الشعبيون يمارسون نوعاً من الإيحاءات للمريض، وقد يحدثون له نوعاً من الإيلام بالضرب إذا لزم الأمر، فيفيق من هذا الانشقاق الهروبي بسرعة، وينبهر بذلك العامة، وتزداد ثقتهم بهذا المعالج!لكن نفس هذه الأعراض ما تلبث أن تعود من جديد عند أول ضغط نفسي أو اجتماعي؛ لأن المعالج لم يبحث عن السبب الحسي، وإنما عالج العرض الموجود فقط في جو من الغموض، بل ويحدث أن يتمادى المريض في أعراضه ويصورها بعد ما رأى وسمع من إيحاءات عن تلبس الجن، وتزداد الأمور تعقيداً، وهنا يعود أهل المريض إلى المعالج الذي يبتزهم تحت وهم تأثير الجن!وقد أراد البعض منهم أن يوسع تأثيره على الناس، فسجل أشرطة تبين كيف يخرج الجن من المرضى، وانتشرت الأشرطة، وسببت فزعاً لكل من سمعها، وقد جاءوا زرافات ووحداناً! إلى هذا المعالج كي يعالجهم من تأثيرها، وكثير من الأخصائيين النفسانيين حينما سمعوا هذه الأشرطة -وهم من المسلمين المتقين الذين يؤمنون بلبس الجن- لم يشتبهوا لحظة في أن هذه حالات هستيريا، وليست في الحقيقة حالات مس شيطاني، وإنما تحدث هذه الهستيريا تحت إيحاءات هذا المعالج؛ لأن المعالج يرتكب أول خطأ عندما لا يتأكد ويتيقن من التشخيص، بل أول ما يبدأ بقراءة القرآن، ولذلك يحس هذا الشخص المريض بأنه مصروع، حتى ولو لم يكن كذلك.فالخطأ من المعالج عندما يربط بين قراءة القرآن وبين اللبس مباشرة دون تأكد، فالمريض عندما يستشعر أن المعالج يقرأ عليه القرآن الكريم، حينئذٍ يترسخ عنده نفس هذا الوهم والإيحاء بأنه مصاب بالمس.
حقائق تتعلق بوجود الجن
نظراً لكثير من هذه الممارسات المؤسفة في هذا المجال، فقد وجدنا انشقاقاً وحيرة عند هذا المريض بين الشيخ المعالج وبين الطبيب المعالج أيضاً، الأمر الذي أدى بمعظم الأطباء إلى أن يستنكروا ما يحدث، وامتد استنكارهم وبالغوا فيه حتى أنكروا حقائق ثابتة في القرآن والسنة لا يسوغ لمسلم أبداً أن ينكرها، وجاء هذا كرد فعل لهذا التخبط الذي حصل وعانى منه الناس، فهي حقائق في الأصل، لكنها أحيطت بأخطاء هؤلاء المشعوذين، وأحيطت بمبالغات العامة وأوهامهم.الذي يجهله كثير من الناس، خاصة الذين أنفقوا عمرهم في التشبع من الثقافة الغربية المادية الملحدة: أن مس الجن أمر ثابت، وأن السحر والحسد حقيقة ثابتة، بغض النظر عن هذه المبالغات والمجازفات التي تصدر من جهلة الناس، والله تعالى يقول: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275].قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حالة صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً. وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ابن أبي العاص ؟! قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان، ادنه، فدنوت منه، فجلست على صدور قدميه، فضرب صدري بيده) يعني: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدر عثمان بيده، دون كسر عظم أو ضرب على الوجه، (وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك)، رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة. وعند الشيخين من حديث صفية رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، ولاشك أن الطب الغربي أو الطب المادي الملحد لا يعترف بحقيقة الشيطان، ولا بالروح، ولا بالله، ولا بالقرآن، بل يتعامل مع الأمور المحسوسة، فمِن ثَم خُدع من خدع من الأطباء بأن جارى المراجع الطبية في هذه المزلقة المهلكة والخطيرة.وفي الجهة الأخرى بالغ مُدَّعو العلم بأسرار الجن في هذا الأمر، فادّعوا أن كل الأمراض هي مس من الجن أو هي تأثير سحر؛ ليستجدوا المرضى المساكين، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة الذين يلتمسون الشفاء في أي مكان، وبأية طريقة، وهكذا انتشرت من جديد على أيدي هؤلاء المعالجين العرافة والكهانة بصورة جديدة، ولكن في هذه المرة تختفي وراء لحية عمامة وقميص، ووراء ادعاء العلاج بالقرآن الكريم حتى يمارسوا هذا الدجل في حماية القرآن الكريم، وكي تزداد ثقة عند عامة الناس بهم.إذاً: الصنف الأول بالغوا في استنكار ما يحدث، وفي إنكار تأثير الجن والسحر والحسد بالكلية، ولاذوا واعتصموا بمكتسبات الطب الهائلة التي هي بالفعل قد كشفت كثيراً من الغموض، واعتقد الكثيرون منهم أنهم عرفوا كل شيء حتى لم يغب شيء عن مجال البحث والتجربة الملموسة!والواقع أن الأمر بخلاف ذلك، فما زالت أسباب كثير من الأمراض النفسية في مجال النظريات التي تتغير من وقت إلى آخر، وما زالت هناك أشياء في الطب شديدة الغموض، حيث تم وصف الكثير من مظاهر الأمراض، ولكن بقيت المسببات في حاجة إلى بحث طويل.ونحن ندعو الفريقين سواء كان الأطباء المتأثرون بالمنهج الغربي، أو الغُلاة الذين غلوا في موضوع علاج الجن إلى أن يتخلى كل منهما عن موقفهما المتطرف؛ لتكون القضية واضحة وموضوعية، مع الاعتراف والالتزام والاعتقاد بما ورد من آيات وأحاديث صحيحة في هذا الشأن، دون تقليل أو تهويل.
عوامل رواج السحر والمس ومظاهرهما
توجد هناك الكثير من العوامل، نذكر منها:
فطرة حب الاستطلاع عند الإنسان
توصل الباحثون في تاريخ البشر وفي نفس الإنسان إلى أن الإنسان عنده ولع شديد بمعرفة الغيب، يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن من خواص النفوس البشرية: التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر، سيما الحوادث العامة، كمعرفة كم بقي من عمر الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، والتطلع إلى هذا الغيب طبيعة بشرية مركوزة في طبيعة الإنسان، مجبول عليها هؤلاء البشر، ولذلك يولعون بمعرفة ذلك عن أي طريقة، حتى عن طريق المنامات والرؤى، يريدون أن يعرفوا ويستكشفوا ما يأتي من هذا الغيب، أو ما يخفى عليهم من هذا الغيب.وقد أتت الشرائع الإلهية متوافقة تماماً مع هذه الغريزة، وهي غريزة حب الاستطلاع، أو غريزة الفضول والتطلع إلى استكشاف الغيب المجهول، حيث جاءت الشرائع الإلهية متوافقة مع هذه الفطرة، فقامت بإشباع هذه الفطرة، فجاء في الوحي الإلهي وعلى ألسنة الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ما يشبع هذا النزعة في النفس البشرية، فحدثت الناس عن العوالم غير المنظورة التي سماها القرآن الكريم: عالم الغيب، حيث حدثهم ربهم سبحانه وتعالى عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، كما حدثهم عن عالم الملائكة، وحدثهم عن عالم الجن، وحدثهم طويلاً عن الموت، وعن سكرات الموت، وماذا يحدث بعد الموت، وماذا يحصل في القبر، وماذا يحصل في البعث والنشور، وكذا أحوال أهل الجنة وأهل النار، وأطلعهم على كثير من الحوادث التي ستقع على ظهر الأرض، وبالذات أشراط الساعة، كالمسيح الدجال، وغير ذلك من الأحداث التي تعلمون.فهناك طاقتان فكريتان في كيان الإنسان: الإيمان بما تدركه الحواس، والإيمان بما لا تدركه الحواس، فالإيمان بما تدركه الحواس اقتصرت عليه جاهلية العلم، ونعني بذلك: العلم الذي قال الله سبحانه وتعالى في أصحابه: لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7]، فأبدل من العلم عدم العلم؛ ليدل على استوائهما؛ لأنه علم يقف عند الظواهر فقط دون أن ينفذ إلى ما وراءها من الحقائق.أما العلم بالغيب الذي لا تدركه الحواس فقد أنكره العالم المادي، حيث أنكر الروح؛ لأنها لا تخضع لحاسة الذوق، ولا السمع، ولا الشم، ولا البصر، ولا اللمس، أما الإسلام فإنه يؤمن بالطاقات الإنسانية جميعاً، ويعطي كل طاقة ما يصلح لها من الغذاء، فالعالم المادي مبسوط أمام الإنسان يدركه بحواسه أو بواسطة الآلات، والمجال رحب ومفتوح للبحث والتنقيب واستكشاف ما يفيد هذا الإنسان.أما عالم الغيب فقد أعطى الإسلام الإنسان غذاءً خصيباً في هذا المجال حينما أخبرنا عن الجن والشياطين، لكن قد اختلف حديث القرآن عن الجن عنه في حديثه عن الشياطين، فحينما حدثنا القرآن عن الشيطان فصل ووضح معالم الشيطان، ونفسيته، وأهدافه، ومراميه، وخطواته، ونوّع في الكلام تنويعاً كثيراً حتى نكاد نرى صورةً بارزة ومعالم واضحة مفصلة لهذا العدو المبين، بل كأننا نلمسه؛ لأن هذا -بلا شك- له دوره في حماية هذا الإنسان من كيد ذلك العدو المبين.أما الجن فقد جاءت الإشارة إليهم مفصلة في سورة الجن، وجاءت مختصرة في مرور عابر في سورة الأحقاف، وفي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.وفي هذا فائدة، وهي: إشباع هذه الفطرة المغروزة فينا من حب استكشاف ما حولنا من العوالم الغيبية، وهذا مما يزيد مساحة العقيدة ويوسع رقعتها، ويلبي ميلاً فطرياً عند الإنسان إلى الإيمان بكائنات لا تدركها الحواس.إن الحديث عن الجن في بدايته موضوع شيق وجذاب، له بريقه؛ لأنه يلمس هذا الوتر الحساس في نفس كل منا، فللموضوع لذة وجاذبية، ويحيطه الغموض الذي يغري باكتشافه، ويشكل عامل جذب نحوه، ويشبع غريزة حب الاستطلاع والتفتيش وراء المجهول، وقد شكل هذا الفضول سبباً رئيساً في انتشار ظاهرة العلاج الشعبي للمس الجني.فهذا من أعظم الأسباب التي روجت لهذا الأمر، وجعلته على كل لسان؛ حيث أنه يشبع هذه الفطرة والغريزة المركوزة في كل واحد منا، وهي حب الفضول وتتبع مثل هذه الأخبار؛ ولأنها تشبع هذا الشعور الموجود في الإنسان، فكثير من الناس إزاء هذا الشعور وهذا الإشباع لا يسعهم إلا أن يغضوا الطرف عن التحري والتحقق والتثبت مما يسمعون؛ لأنه يوافق هذا الميل عندهم.
ترويج بعض الدعاة للموضوع من دون ضوابط
هناك أناس مسئولون عن شيوع هذه الظاهرة، وفي مقدمتهم للأسف الشديد طائفة من الشيوخ والدعاة المشهورين، حيث رحبوا منذ البداية بهذا الموضوع، ونشروا قصصه بأنفسهم على المنابر، ونشروا تجاربهم الشخصية والقصص التي حكاها لهم الثقات على الملأ، دون أن يضعوا في اعتبارهم طبيعة هذه الجماهير التي يخاطبونها، وأن هذه الطبيعة قابلة للغلو في هذا الباب، فمن ثم فتحوا الباب دون أن يضعوا له ضوابط أو قيود، وهم إذ فتحوا هذا الباب، ولم يضعوا له ضوابط ولا قواعد، ولم يوجدوا في نفس الوقت نوعاً من الإشراف الجماعي أو الإشراف العلمي على هذا الأمر، فانتشرت التجارب وعمت الأخطاء الفردية.
اشتغال من قلت بضاعتهم من العلم والإيمان بالتأليف عن الجن
من المسئولين عن شيوع هذه الظاهرة: هؤلاء المعالجين الذين روجوا لهذا الأمر بصور شتى بين الشباب، فألفوا الكتب التي بلغب أكثر من (84) كتاباً -حسب إحصائية قام بها أحد الإخوة- وأنت حيثما حللت وأينما ذهبت في معارض الكتب فإنك تجد هناك قسم خاص بكتب الجن! ولو حاولنا عمل إحصائية متكاملة فإننا سنذهل بالعدد الكبير من المؤلفات في هذا الباب، وهذا أحد العوامل التي أودت بنا إلى هذه الظاهرة الخطيرة، حيث تفصل هذه الكتب في دراسة أعراض هذا المس المزعوم وطرق علاجه؛ فتتكلم عن الجن، وأحواله، ونواميسه، وكيف تعتدي على البشر، وكل مؤلف يقول لك: هذه تجربتي الشخصية، والحالات التي تأتيني، وفعلت كذا، وعالجت كذا، ولله الحمد والمنة استطعنا إخراج الجن. إلى غير ذلك مما نسمعه ونقرؤه.ليس هذا فحسب بل إن الشباب والأحداث والمراهقون خاضوا في هذا الأمر! فتجد حديث المجالس عن الجن، ويقرءون الكتب التي تتحدث عن الجن، وأشرطة الكاست أغلبها عن الجن، وهناك حوار مع الجني المسلم كما يزعمون! فالواحد منهم يظن أنه ما عليه إلا أنه يقرأ آيات من القرآن الكريم، فإذا ضحك المريض أو بكى أو اختنق أو تشنج؛ فإن هذا يعني أنه مصاب بالسحر أو بمس الجن، ويا حبذا لو تكلم فسرعان ما ينفعل المعالج مع هذا الجن، ويقوم بتسجيل المحاورة في أشرطة، ومن ثم يقوم بإذاعتها بين الناس.وقد انتشرت الحكايات الكثيرة عما يحدث في جلسات العلاج، وهذا من أكبر أسباب انتشار هذا الأمر، ونحن نذكر هذه الأسباب؛ لأنها مهمة جداً في الوقاية من هذا الداء، ومحاربة هذه الظاهرة التي أصبح كل واحد منا مسئولاً عن مواجهتها وإخمادها والقضاء عليها؛ لما يترتب عليها من مخاطر جسيمة سنذكرها إن شاء الله تعالى حينما نتكلم في النهاية عن طرق الوقاية أو العلاج.
الصحف
من المسئولين عن انتشار هذا الأمر وشيوعه: بعض الصحف؛ لأن الصحف لا تعترف إلا بالتوزيع، حتى تمتلئ جيوب أصحاب الجرائد، ولا نستثني الصحف المسماة بالإسلامية، فإنها قد دخلت أيضاً في هذا الموضوع، ولعبت دوراً كبيراً في الترويج له، وفتحت الباب على مصراعيه لإشغال الرأي العام بهذا الموضوع، وفتحت الباب لاستغلال الدجالين والمدعين لهذا الأمر.ويكفي لبيان المهزلة إعلان حزب من الأحزاب السياسية بخط عريض: لعلاج فشل الخطوبة المتكرر، فهم يعزفون على الوتر الحساس عند الجهلة وقاصري العقول من الناس، ويغرون الناس بأن عندهم الحل لكل مشكلة.إذاً: علينا أن نلقي هذا الطب -حسب اعتقادهم- في البحر؛ لأنهم يزعمون أن كل مرض سببه المس، بل إن هناك من يزعم بأن الجن يعمل عمليات جراحية! ويعالج العقم! ويعالج تكسير العظام! ويفعل كذا وكذا إلخ، وهناك أساطير وحكايات لا يعلم أين ستتوقف وكيف ستنتهي إلا الله سبحانه وتعالى.فالحقيقة أن سلبيات هؤلاء المعالجين كانت سبباً رئيساً في تفاقم هذه الظاهرة، وفي كثرة هذه الحالات، وإلا فإن ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، بل يوجد في كتب الطب النفسي بالذات صور لعملية الإحراق للمصروعين، حيث كانوا يعالجون حالات الصرع بالإحراق؛ حتى تخرج الأرواح الشريرة من المريض كما كانوا يقولون, وهذا يوجد منذ زمن بعيد جداً، حتى في كتب أهل الكتاب توجد حوادث تنسب إلى المسيح أنه عالج فيها المس الجني.
التهويل والإفراط
ظاهرة المس الجني موجودة في كل زمان، لكنها كانت محصورة ومحدودة، وكذلك ظاهرة السحر والحسد، فإنه وقبل انتعاش الصحوة الإسلامية كان الناس يراعون أمور المروءة، وكان من أكبر العيب أن تسمع رجلاً يقول: عمل لي فلان عملاً؛ لأن هذه الكلمة لم تكن تصدر إلا من النساء الأميات القاصرات الجاهلات، وكان هذا يعتبر من خوارم المروءة، ولما كنت في الثانوية كان المدرس يقول لنا: ماذا تعمل في المسألة؟ نقول: نعمل عملاً، وكان الواحد منا يستحي من قول هذه الكلمة؛ لأنها لا تشيع إلا في حصص الرياضة، فنظراً لمشابهتها للألفاظ النسائية كان الإنسان يستحي من استعمال هذا التعبير، أما الآن فإن هذه الكلمة قد راجت حتى أنه لا يكاد يوجد حدود بين عقلية النساء التافهات القاصرات، وبين رجل ضخم البنية، كما قال تعالى: تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، ثم تراه يقول: هذا عمل لي عملاً! ويستعملون هذه الألفاظ التي ما شاعت إلا على ألسنة النساء، وليس كل النساء بل فقط الأميات الجاهلات.بفضل هؤلاء المعالجين المزعومين انتقل موضوع الجن والسحر والحسد من الوسط النسائي إلى وسط الرجال، أو بتعبير أدق: إلى وسط الدعاة، ومن بعض الدعاة انتقل إلى الوسط الرجالي، واستوى الرجال مع النساء في الاستغراق والاندماج مع هذه الظاهرة الخطيرة.فكل ما فعله هؤلاء المعالجون أنهم لم يعالجوا في الحقيقة، بل وسعوا رقعة هذا البلاء، ونشروا خبره، وسلطوا الأضواء عليه، ولفتوا أنظار الناس إليه، وفتحوا أبواب الشر على مصراعيها!ولا زالت حالات المس والصرع الجني موجودة، لكنها في الحقيقة ليست بهذه الكثرة التي نراها اليوم، فكثير مما نرى أو نسمع عنه من الحالات -بل أغلبها في الحقيقة- ليست مساً جنياً، وليس لها علاقة بالصرع، وإن تكاثر المعالجون على الخطأ في تشخيصها، ومن ثم في علاجها.وسوف أذكر دليلاً حياً عابراً على هذا الكلام: أحد المشايخ المشهورين في السعودية وهو الشيخ: العمري كان له للأسف الشديد دور فعال في نشر الاهتمام بموضوع الجن، حتى أنه من شدة استغراقه في هذا المجال كان العلماء ينكرون عليه الإفراط في موضوع الجن، ثم دار الزمان دورته، وإذا به تُنشر له مقالة في إحدى الجرائد العالمية المشهورة بأنه ينكر تماماً الصرع الجني، ولا يعترف بشيء اسمه: صرعاً جنياً!وهذا بسبب غلوه وإفراطه في موضوع الجن، حيث جعله ينقلب إلى الجهة المقابلة، بعدما خاض فيما خاض، والآن بنفس اللسان ها هو يقول: إن هذا الصرع لا أصل له على الإطلاق! وينكر حقيقة الصرع الجني للإنس، مما اضطر العلماء هذه المرة أيضاً أن يردوا عليه ليردوه إلى الحال الوسط، وهو إثبات المس.
عدم التفريق بين المرض العضوي والنفسي وبين الصرع والمس
بعض المرضى بمرض عضوي مزمن أو نفسي ييأسون من علاج حالاتهم، أو من قدرتهم على الخروج من المشكلات الاجتماعية، فإذا ما انتبه صاحب هذا الدافع إلى هذا الداء الجديد .. داء السحر واعتداء الجن؛ فسرعان ما يتعلق بالقشة، ويهديه تفكيره إلى أن سبب هذا المرض الذي يعاني منه هو من الجن أو السحر أو نحو ذلك، فيهرع إلى طلب العلاج.هناك أمراض عضوية، وهناك أمراض نفسية، والمريض بالمرض النفسي قد يتأثر بما يقرأه ويسمعه حتى يقع فريسة الإيحاء الذاتي، فيقرأ عنه من باب الفضول وحب الاستطلاع خاصة النساء؛ لأن أصل كلمة هستيريا مأخوذة من كلمة (هسترا) يعني: الرحم، فكانوا فيما مضى يقصرون هذا المرض فقط على النساء، إلى أن اقتنعوا في العصر الحديث بأنه مرض يصيب الرجال والنساء، لكن نسبة النساء فيه أكثر.الشاهد: أن النساء لهن تأثر بهذا المجال أكثر من غيرهن، حيث يقرأن عن الجان، ونواميسه، وحركاته، وكيفية اعتدائه ومسه للإنسان، ويفصل مؤلف الكتاب، ويشرح أعراض المرض، وأسبابه، وطرق علاجه... وأكبر خطأ يرتكبه المؤلفون: أنهم يجعلون هذه المادة متوفرة ومتاحة لكل من شاء، ويسترسل المؤلف في ذكر أعراض قد تتشابه في كثير من الحالات مع أعراض الأمراض العضوية والنفسية؛ من صداع، وضيق الصدر، وارتفاع ضغط الدم أو انخفاضه، أو مغص، أو غثيان، أو شبه غيبوبة، أو اضطراب عصبي، أو تشنجات إلى أو غير ذلك، وهذه الأعراض قد تقابلنا في حياتنا اليومية نتيجة أسباب شتى ومشاكل اجتماعية يعانيها الإنسان، فإذا كانت المرأة أو الشخص الذي يقرأ هذا الكتاب يعاني من هذه المشكلات فسوف يقتنع في ضوء ما قرأه أن به مس من الجن، أو أن هذه المرأة وقعت في شرك السحر، في حين أن الحقيقة غير ذلك، خاصة وأن بعض المرضى النفسيين يكون عندهم ما يسمى بالميل للاضطهاد، وكثير من الشعب المصري عنده ميل إلى أن يبين أنه مظلوم، وأن بعض الناس يحسدوه، أو يتآمروا عليه، أو يعملون له سحراً، أو أن الجن يؤذونه... إلى غير ذلك من مظاهر الشكوى والتظلم؛ وإسقاط المشاكل على الآخرين.فكثير من الحالات -التي هي في الأصل سالمة من الجن- عندها أعراض إما عضوية أو نفسية، وتجد أحدهم يتوغل في الوهم إلى أن يصبح الوهم في نظره حقيقة واقعة، وربما أدى به الأمر إلى أنه يتعرض لصرع الجن حقيقة؛ بسبب ذهابه إلى المعالجين، وهم الذين يجلبون له الجن، ويجنون عليه.
كثرة التخوف من الجن والمبالغة فيه
من جراء انتشار هذا الكلام، والمبالغة في الحديث عنه من خلال الكتب والأشرطة والجرائد انتشرت الأوهام والوساوس، والخوف المرضي، والهلع، وتغلغل ذلك في قلوب كثير من الناس، حتى إنهم عظموا الجن، وخافوا ورهبوا منهم، وضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى، وتعلق الناس بالمخلوق الضعيف الذي يعتقدون أن عنده العلاج بدلاً من وثوقهم بالله سبحانه وتعالى، فصار فيهم شبه بمؤمني الجن الذين قالوا: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، وهذا نفس ما حصل من هؤلاء المعالجين ومن هؤلاء المرضى، وقوله: (رهقاً) يعني: خطيئة وإثماً، قال القرطبي : المراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، كان الرجل إذا نزل في وادي وأراد أن يبيت فيه يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فيبيت في جواره حتى يصبح، أي: يتعوذ بملك الجن في هذه المنطقة من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار هذا السيد حتى يصبح.قال مجاهد : (( فَزَادُوهُمْ )) أي: أن الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوذ، والواو هنا -على هذا القول- تعود إلى الإنس، يعني: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ [الجن:6] أي: يتحصنون ويحتمون ويلتجئون، بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] يعني: فتسبب الإنس بفعلهم هذا في أن زادوا طغيان الجن، ونحن لا نعتب على الجن في هذه الحالة؛ لأنهم وجدوا أناساً عقولهم ضعيفة، فما بالهم لا يلعبون بهم وقد أتوا إليهم بأنفسهم، وأعطوهم من السلطان ما لم يكونوا يحلمون به؟! ولماذا لا يصرعهم الجن في الحقيقة؟! حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن.وقال قتادة وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن، وقال سعيد بن جبير : فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] يعني: كفراً. وقد فُتح باب من الشر والبلاء، وخُدش التوحيد، وانتشر السحر، والجدل، وإهمال الدعوة بسبب الانشغال بكل هذه الأشياء التي فتحت لنا أبواباً من الشر ما كنا نسمع عنها من قبل، ولولا أني لست من أنصار تفسير كل شيء بالتآمر العلماني واليهودي والصليبي والاستشراقي لقلت: لا يبعد أن يكون هذا من فعل أعداء الإسلام، فهم الذين شجعوا هذا الخط، لكن أنا لست من أنصار هذا المنهج، وقد حقق هؤلاء من حيث لا يدروا لأعداء دعوة التوحيد مكاسب عظيمة جداً، ولابد أن أعداء الإسلام سيشكرون لهم أن شغلوا الناس بهذه الأشياء، وصدوا الناس عن سبيل الله، وأوقعوهم في الشرك، وأحيوا كثيراً من الفتن التي نلمسها!!يقول الرازي في تفسير الآية: المعنى: أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترءوا عليهم، فزادوهم ظلماً. إذاً: الإنس هم الذين تسببوا في زيادة طغيان الجن، وكثير من هؤلاء الناس الذين يدّعون الصرع، ومن هؤلاء المسمين بالمعالجين، كان لهم دور كبير في إشاعة المس الوهمي والمس الحقيقي، (( فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ))، فاغتنم الشيطان حالة الرعب والفزع التي انتابت الناس بطريقة وبائية أكثر مما غنم من الطبع واللمس نفسه.ما يبلغ الأعداء من جاهلما يبلغ الجاهل من نفسهفكان أن زادهم الشياطين رهقاً لما رأوهم قد ولعوا باللبس الجني، ونفخوا في الشيطان، حتى خافوه ونسوا قوله تبارك وتعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76].بدلاً من الدعوة إلى التوحيد، وإلى تقوية الإيمان والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يتلوا عليهم قوله تبارك وتعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، بدل هذا كله؛ إذا بهم ينفخون ويعظمون الشيطان الذي أُمرنا بتحقيره وتصغيره، والصواب هو تحقيره وازدراؤه، كما روى الإمام أحمد : (إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)، قوله: (ينضي) يعني: يأخذ بناصيته ويقهره ويذله، ألم يكن إبليس كما قال النبي عليه الصلاة السلام في حق ابن الخطاب : (ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره)؟! بدل أن يوقدوا شعلة الإيمان واليقين في قلوب الناس، والتوكل على الله سبحانه وتعالى؛ حتى تحرق بنورها هؤلاء الشياطين، إذا بهم يجتهدون في إطفاء هذه الجذوة الإيمانية بتضخيم الشياطين، وأن الشياطين يفعلون ويفعلون! وهم بهذا الاعتقاد يضادون المنهج النبوي الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم.فإن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نحقر الشيطان، وكيف نتجنب الأشياء التي تنفخ هذا الشيطان وتعظمه، فعن رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت دابتي، فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل: تعس الشيطان، ولكن قل: باسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب)، أي: لأنك إذا قلت: تعس الشيطان، كأنك تبين أن الشيطان قد بلغ منك مبلغاً حينما يكيدك وأنه يفعل بك ما يريد، وهذا مما ينافي سلوك أهل التوحيد.فهؤلاء الذين يهزمهم الرعب والخوف هم مرضى من كثرة ما يسمعون، فهم يفزعون ويخافون، بل ويخيفون الأطفال، فإن الأطفال حينما يسمعون هذه الأشياء يخافون من النوم في الظلمة، ومن الجلوس في البيت بمفردهم، وهذا خوف مرضي، وهو خطر على نفسية الأطفال بلا شك.فهؤلاء يهزمون أنفسهم بأنفسهم بسبب الرعب الذي يُدخلونه في قلوبهم من خوف الجان، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ [المدثر:50]، وينادي أولهم آخرهم: الجن.. الجن، السحر.. السحر، العين.. العين!
خطر انغماس بعض الدعاة في علاج المس
إن ظاهرة انغماس المعالج في هذا الأمر ينتج عنها أشد الأضرار، وأول من يصطلي بنارها هو المعالج نفسه، فبمجرد أن يشاع أن فلاناً عالج حالة مرضية، إذا بالناس يتقاطرون على بيته ليل نهار، وإذا بطابور طويل من المرضى يتبعه من البيت إلى المسجد، ومن منزل إلى آخر، والنتيجة هي اضطراب شامل في نظام حياته، واستهلاك كامل لوقته، ولا أحد يعينه على الانتظام في عمله أو وظيفته أو دراسته، فيحدث عنده خلل على مستوى المسئوليات الشخصية أو الأسرية أو الاجتماعية أو الوظيفية أو الدعوية، فالذي كان داعية من قبل أصبح في وضع يقول له الناس: ألست أنت الذي كنت تنهانا عن الشعوذة ها أنت الآن تمارس ما كنت تسميه من قبل شعوذة؟!وهو مستغرق تماماً في علاج هذه الحالات المزعومة، وبعد أن كان محتسباً إذا به يترقى درجة ليصبح محترفاً ومرتزقاً بهذا العمل، وقد يصل به الأمر إلى المغالاة في الأجور، والإلحاح في الطلب!أما المعالج نفسه فمن أخطر الآثار عليه: أنه لو كانت الحالة ليست حالة مس، وإنما هي حالة وهم ومرض كاذب، فإنه قد يسلك مسالك تؤكد لهذا المريض الحالة التي عنده تماماً، ولا يبين له كما بين الطب الجسمي العضوي والطب النفسي، كأن تكون حالة أعصاب أو نوعاً من القلق أو الأرق، فقد يشتكي المريض من نفس الأعراض -وهو صادق في ذلك- لكن سببها هو سبب نفسي، وليس سبباً عضوياً، فهي حالة نفسية بطريقة معينه تؤثر وتوجد نفس الأعراض، وليس سببها هو الجن.فهذا المعالج أحياناً يضرب هذا المريض، وقد يصل بالضرب إلى حد القتل! فيُصدم هو، وقد يصاب بالذهول، أو الجنون، وربما يؤثر على بيته؛ لأنه غالباً يهمل شئون أسرته فيتصدع بيته، وربما وصل الأمر مع زوجته إلى الطلاق، وإذا كان من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أو من طلبة العلم الشريف فلا شك أن هذه الوظائف الشريفة سوف تُطوى في عالم النسيان؛ لانغماسه في علاج هذه الحالات، وهو في الحقيقة ضرب من التخدير، وإلهاء الناس عن واقعهم وعن الطريقة الصحيحة للتعامل مع الشيطان، وهي: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6]. فكم شغلت هذه الظاهرة دعاة عن الدعوة؟! وكم حولت دعاة إلى مشعوذين وكهنة؟! حتى أن بعض الناس يقول لأحد الإخوة: أنا بالأمس قابلت أخاً كاهناً! منذ متى أصبح الكاهن أخاً؟! ومنذ متى أُضيفت كلمة (أخ) إلى (كاهن) حتى يصبح أخاً وكاهناً؟! الله المستعان.ومن الأمور الخطيرة جداً: أن الشياطين أذكياء في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان إذا رأى الناس قد التفوا حول شخص من هؤلاء المعالجين، فإن له طرقاً شتى يحاول أن يفتن بها هذا المعالج، كأن ينفخ فيه الغرور، حيث يكون هذا الشيطان متلبساً بشخص، فيقول له الناس: سوف نأتي لك بالشيخ فلان المعالج، فيقول: إلا فلان! لا تحضروا هذا الشيخ؛ فإنه سيحرقني، أنا سأهرب وأخرج من غير أن تأتوا به!!والشيطان له هدف من وراء هذا الكلام، وهو نفخ المعالج، لكي يملأه بالغرور، حتى يتمادى في هذا الطريق المهلك؛ لأن الشيطان خبير في إغواء الناس وإضلالهم، فالشيطان يساعده في وظيفته دون أن يشعر هو، ويقع فريسة للشيطان دون أن يشعر، وكم سمعنا من هذه المواقف التي تماثل ما ذكرناه.وقد انتشرت هذه الظاهرة المهلكة، ثم ينتج عن ذلك غلو في هذا المعالج، حتى ربما يعتقد الناس أن فيه سراً معيناً ليس موجوداً في غيره، فالناس يتزاحمون عليه ويشدون إليه الرحال من كل بلاد إليه ويضربون إليه أكباد السيارات حينما يسمعون ما ينشر عنه من حكايات غريبة، وكيف أن أكثر المصروعين تكلمت الشياطين على ألسنتهم أمام هذا القارئ، وأخذ العهد من الشيطان أنه لا يعود إلى ذلك المصروع، وهذا المعالج ينخدع بكلام هذا الجني الشيطان، وربما يكون المتكلم هو المريض نفسه حيث يتقمص شخصية الجني، ولكثرة ما سمع عن الجن فإنه يعيش نفس الدور بكل إتقان. وهذا الكلام الذي يقوله الجن أو الشيطان إنما هو استدراج وفتنة له؛ كي يصرفه أكثر عن سبيل الله وعن الصراط المستقيم.يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل -أي: تنقص درجته في الولاية بسبب حصول الخوارق- كان كثير من الصالحين يتوبون من مثل ذلك ويستغفروا الله تعالى، كما يتوبوا من الذنوب كالسرقة وغيرها، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها -يخشى من الكرامة؛ لأنها قد تنزل مرتبته- وكلهم يأمر المريد -أي: يأمر تلامذته- ألا يقف عند خوارق العادات، ولا يجعلها همه، ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كانت كرامات، فكيف إذا كانت في الحقيقة من الشياطين؟! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، ويقول: هنيئاً لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك -أي: أنه شيطان- وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير ونحوها، وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك.فأنت تعرف أن هذا شيطان، وهو الذي يمدحك، فليس في الأمر أي اشتباه، وإذا كان أحد السلف يأتيه الرجل ويقول له: رأيتك في الجنة تطير! فيبكي ويقول: لعلها تكون من الشيطان يريد أن يغرني ويريد أن يذلني.فلابد أن يكون الإنسان على حذر من الشيطان حتى اللحظة الأخيرة.وقد روي في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه عند موته فوجئ ابنه بأنه يقول: لا بعد، لا بعد، فبعد ما أفاق قال له ابنه: يا أبت! قلت شيئاً غريباً! كنت تقول: لا بعد، لا بعد، قال: يا بني! هذا الشيطان عرض لي في ركن الحجرة، وهو يعض أنامله ويقول: فُتَّني يا أحمد -أي: سوف تموت وما استطعت أن أضلك- فكان يرد عليه الإمام أحمد : لا بعد، لا بعد. أي: ما دام فيَّ عرق ينبض فلا آمن الفتنة.وهذا باب من أبواب الفتنة الخطيرة جداً، وأنت نفسك تعرف أن الشيطان هو الذي يقول: إلا المعالج فلان، انتبهوا! لا تأتوا لي بفلان، أنا سوف أخرج، لكن لا أريد أن يأتي ليحرقني... إلى آخر هذا الكلام الماكر، فهو شيطان، وأنت تعترف أنه شيطان، فكيف تقبل نصيحة شيطان رجيم؟! وكيف تغتر بكلامه وبمدحه إياك وهو يريد أن يغرك ويفتنك عن صراط الله المستقيم؟!فهذا المعالج قد يتوهم أن الناس الذين ازدحموا على بابه من كل الآفاق إنما هو لقوة إيمانه، ويرى المرضى الكثيرون الذين يعافيهم الله سبحانه وتعالى على يده، وكيف أنه قهر الشياطين وقهر الجان، فأصبحت الشياطين تخاف منه وتخرج من المصروعين، فيتوهم أنه من الأولياء الأبرار، ويصيبه العجب الذي هو أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وها هو عمر رضي الله تعالى عنه يخاف على أُبيّ رضي الله تعالى عنه من كثرة الأتباع والتلاميذ الذين يطأون عقبه، وهذا عمر رضي الله عنه يعزل خالد بن الوليد وهو في أوج انتصاراته وفتوحاته؛ خشية أن يفتن الناس بـخالد بن الوليد ويظنوا أن النصر يأتي من خالد بن الوليد ، فإذا كان هذا في حق خير هذه الأمة التي أُخرجت للناس، فكيف في حق هؤلاء الضعفاء؟!أما الأثر على المريض -ونعني به: المريض بغير الصرع، وعومل على أنه مصروع- من الضرب أو القتل الذي يحصل له إذا عولج بالقرآن الكريم وهو في الحقيقة ليس مصروعاً، فلا يحصل له شفاء في نظره، بل قد يحصل تشكيك لضعاف اليقين من هؤلاء المرضى في جدوى العلاج بالقرآن الكريم، وقد يصل أمر المريض إلى أن يفكر في الانتحار إذا أيس من العلاج.
تصحيح نظرة العوام للقرآن
كثير من الناس يرى أن القرآن الكريم عبارة عن دواء يؤخذ للعلاج! هذا هو تصورهم للقرآن، وهذا هو المدخل الذي دخلوا منه للتعامل مع القرآن، فالقرآن في نظرهم ما هو إلا دواء، والمقصود منه أن يصل بالمريض إلى حالة الشفاء، وهذا اعتقاد غير صحيح، فينبغي التعامل مع القرآن على أنه كتاب الله سبحانه وتعالى، وأنه طريق السعادة في الدارين، ومنهج كامل للحياة، ولا يُنظر للقرآن على أنه فقط مجرد دواء لبعض الأمراض، بغض النظر عن أنه منهج شامل لحياته.وينبغي ألا يكون التعامل مع القرآن الكريم من خلال التلاوة الذاتية التي يتعبد بها الإنسان بالتلاوة والصوت والحركات والحروف، أو من خلال تشغيل المسجل، وحتى الإخوة الملتزمون يكتفي بعضهم بسماع المسجل، ويقول أحدهم: أنا لا أقطع صلتي بالقرآن، بل أسمع إذاعة القرآن الكريم كثيراً. صحيح أن هذا شيء طيب، لكن لا شك أن الأعظم والأجدى والأكثر ثواباً أن تقرأ وتتعبد الله بتلاوة القرآن، بحيث يخرج من قلبك ولسانك أنت، ومن الجفاء أن يغلب علينا الاهتمام بالقرآن عن طريق الأشرطة، أو الكمبيوتر.ويحصل عند بعض المعالجين أن يصرف للمريض شريط تسجيل للقرآن الكريم فيه سورة البقرة وآيات محدودة معدودة، ويكون هذا كل ما يعالج به المريض من القرآن الكريم.وكثير من الناس إذا مرض لهم مريض -وقد لا يكون مصروعاً- يسارعون قائلين: ابحثوا عمن يرقيه! ابحثوا له عن معالج! هل من راق؟! دون أن يكون هناك حافز على أن يرقي الإنسان نفسه، مع أن الأصل في العلاج أن كل إنسان يرقي نفسه، وإلا ما الذي وسع دائرة هذه الظاهرة؟! ما لماذا لا ترقي نفسك بالقرآن؟! هل من اللازم إيجاد وسائط؟! نحن لا نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يرقي غيره، لكن نقول: لماذا نحصرها في هذا الإطار الضيق؟! لماذا لا يرقي الرجل زوجته بدل أن يحملها بنفسه إلى هؤلاء الناس؟! لماذا لا يرقي ولده؟ لم لابد من معالج اصطفيناه لهذه الوظيفة بالذات؟ لقد اصبح الجهد الوحيد والهدف الوحيد عند حصول حالة من هذه الحالات هو البحث عمن يقرأ عليه وكفى! كأن الناس اعتقدوا أن هذا هو التصرف السليم، وتجاهلوا أن ربنا سبحانه وتعالى أقرب لأحدهم من حبل الوريد، فالقرآن موجود، والتحصينات القرآنية موجودة، والأدعية النبوية موجودة، فلماذا لا ترقي نفسك أنت؟ لم لابد من معالج كما يزعمون؟
بعض أخطاء المعالجين بالقرآن
من أخطار المنهج الذي يتعامل به هؤلاء المعالجون مع هذه الحالات -وهذا يصدر عن حسن نية المعالج إن شاء الله- أنه يحاول أن يستثمر سلطة المرض في تحسين التزام هذا المريض بالإسلام، وهم يصيبون فعلاً حينما يقولون: هذا بسبب الذنوب والمعاصي، فيقول له مثلاً: الجني يأتي في البيت ويعاكسك بسبب وجود صور في البيت، أو فيه كلب، أو أنك تستمع الموسيقى، أو عندك تلفزيون أو فيديو...إلخ، فعليك أن تتخلى عن هذه الأشياء؛ من أجل أن تحصن نفسك من الجن، ولكي تتحسن حالتك.فكأن نظرته لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست مبنية على أنه يجب عليه كمسلم أن يغير أسلوب حياته كله، وأن يلتزم بدين الله كله ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] بل كأن هذه حالة مؤقتة من الالتزام مرتبطة بالشفاء من المرض.حكى لي أخ: أن رجلاً من هؤلاء الناس قالوا له: عندك صور في البيت؟ قال: نعم، قالوا: وموسيقى وتلفزيون؟ قال: نعم، قالوا: والنساء متبرجات؟ قال: نعم! فانتهى الأمر بالاتفاق معه على التخلص من هذه الأشياء لكي يُشفى هو أو زوجته من المرض، فتخلص منها، وطال عليه الأمر، ثم تحسنت الحالة، فإذا به يعود لهذه الأشياء مرة ثانية، فعادوا بالمريض للأخ المعالج، فقال له: أنت عدت إلى الصور وكذا وكذا؟ قال: نعم، فقال: لا يوجد علاج إلا أنك تترك هذه الأشياء، وهذا المدخل جعل الالتزام بأنه علاج حالة، وهذا مدخل غير صحيح، وأما المدخل الصحيح فهو أن يكون الالتزام هو الأصل، وطاعة لله سبحانه وتعالى هي الأساس، وحتى لو قدر مرض فهو بلاء على المسلم، وينبغي أن يصبر عليه، وليس مجرد الالتزام عبارة عن آلة نستعملها مؤقتاً ثم نخلعها بعد ذلك إذا شُفيت الحالة!وقد يكون المريض موهوماً، يتملكه التأكد من أنه مصروع وهو ليس كذلك، فما أن يُقرأ عليه القرآن إلا ويتأكد أنه فعلاً مصاب بالمس، وهو يحفظ الحوار؛ لأنه سمع الكثير من هذه الحوارات في الأشرطة وفي غير الأشرطة، فأول ما يقرأ عليه القارئ إلا وهو يتخيل السؤال: ما اسمك؟ فيجيب: أنا جرجر! وهكذا يمثل الحوار، ويجيب على أسئلة المعالج، ويعيش الدور فعلاً بمنتهى الصدق، وبمنتهى الإتقان، مع أنه ليس فيه مس ولا شيء من هذا، وإنما لكثرة سماعه وتخيله، كما سندلل على ذلك إن شاء الله.
خطورة التعمق والاسترسال في علاج الصرع والمس
ولم أكن أود أن ننشغل بهذا الموضوع، لكن يبدو أننا محتاجون لوقت أكثر مع المعالجين وليس مع الجن! وكثير من الناس يهابون أن يتكلموا في هذا الموضوع، وكثير من المعالجين يتحصنون وراء كلمة (العلاج بالقرآن الكريم)، وإذا انتقدتهم قالوا: إذاً أنت تنكر أن القرآن شفاء!
وهذا نوع من الإرهاب والتخويف الذي يغطون به جرائمهم، ويقولون أنت تنكر المس، وأهل السنة والجماعة يقرّون به، وتنكر السحر وهو مذكور في القرآن، وهذا كله مما يتحصنون وراءه لكي يستبيحوا ما يفعلوه من هذه المخالفات.
وإذا تجردنا من كثير من الضغوط التي تفرض علينا في هذه القضية، سنجد في الحقيقة أن هذا عالم يكتنفه الغموض من كل جوانبه، غموض في كل شيء، ولا نستطيع أن نستوضح كل شيء إن نحن فتحنا هذا المجال؛ لأن الله سبحانه لم يخبرنا عن كل شيء في حياة الجن حتى نخرج من عالم الإنس إلى عالم الجن، وماذا يأكلون ويشربون ويلبسون! فنحن بشر، وعلينا أن نتعامل كبشر، وأن نتفاعل مع الأحداث التي تمر بنا -من مرض أو غيره- حسب ما خوّلنا الله، ونتعامل مع المرض تعاملاً طبيعياً جداً، فالذي يمرض عليه أن يذهب للطبيب الأخصائي ويتعالج، وهو بذلك متوكل على الله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب التي ندبنا إليها الشرع، أما أن نفتح باب الجن فهذه متاهات؛ لأن للجن عالم مجهول.. مجهول.. مجهول، وعالم غامض.. غامض.. غامض، ليس له حدود، والإنسان إذا دخل فيه فإنه يضيع في متاهات ودروب ومسالك لا أول لها ولا آخر، بل عبارة عن حلقة مفرغة فقط.
حتى أن واحداً من أشهر معالجي الجن، وهو الشيخ العمري سامحه الله، بعد ما دوّخ الدنيا كلها بأن نشر موضوع الجن وأشاعه وشجعه، وكان يحكي أشياء عن الجن، ومع ذلك ها هو الآن يأتي ويقول: كل هذا وهم، كل هذا ليس له حقيقة! آلآن بعدما أذيع وأشيع وروج هذا الضلال المبين يعالج بالضد من ذلك؟! فهذا الموضوع كله مثل الدخان، كأنه حيرة وغموض وضباب وعدم وضوح، فهو فن لا تضبطه ضوابط نقلية محدودة وحازمة، والذين يكثرون الكلام في هذا المجال إنما يلتقطون أشياء من هنا وأشياء من هناك، ويقولون: وجدنا كذا في الكتب وفي المراجع القديمة، وهي أشياء عجيبة غريبة، أو أشياء قالها علماء أفاضل، لكن كانت من باب الاجتهاد، ولا تقوم على دليل، فلماذا لا نرفضها؟! ولماذا ندس أنفسنا في كل هذه الأشياء وهي لم يقم عليها دليل؟! ولاسيما السلفيين، أين السلفية؟! أليست السلفية: اتباع كل شيء بالدليل؟! أليست السلفية تمحيص أقوال العلماء ورفض ما لم يقم عليه دليل؟! إذاً لماذا كثر هذا الأمر فينا ونحن كنا أولى الناس بالتنزه عن الغوص في هذا الوحل؟!
متاهات يهيم فيها الناس وراء من لا يعرفون من هم ولا كيف هم، أعراض غير محددة.. أعراض لمرض غير حاسمة.. أعراض تكتنفها الاحتمالات.. علاجات مخترعة بنفس الجو، غير معروفة وغير محددة، وليس لها أول ولا آخر.
وأما من يضرب المصرع، نقول له: من أين لك أنه صرع جني؟ وما هو الدليل على أن هذا مصروع بالجن؟ وما هو الضمان -قبل الشروع في الضرب- أن هذا الضرب سوف يقع على الجني لا على الإنسي؟ أين الضمان أنك لن تظلم هذا المريض المسكين؟!
وقد حصل في كثير من الحالات أن يخطئ هذا المعالج وينهال بضرب فضيع جداً على جسد المريض، وهو معتقد أنه يقع على الجني -كما قرأ في الكتب- ولا يقع على المريض، فيفاجأ بأن الجني غير موجود أو أنه قد هرب، ووقع الضرب على المريض، وأما كلام العلماء الذين قالوا هذا فكلامهم على العين والرأس، لكن أين الدليل عليه؟ وأين الضمان أنك حين تضرب هذا الشخص فإنك تضرب الجني الظالم ولا يقع الضرب على هذا الإنسان المظلوم؟! هل تعذيب الناس والعدوان على صحتهم على أبدانهم بهذه الطريقة مباح لكل أحد؟! هل إزهاق أرواحهم كما يحصل كثيراً أمر متروك هكذا؟! وهل هو معفو عن المعالجين أن يفعلوا ما يشاءون؟! أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].
وهل تُرك الأمر سبهللاً دون في ضوابط ولا حدود؟ أين الضمان؟ نريد دليلاً يضمن لنا أن الضرب سيقع على الجني وليس على الإنسي؟
وكثير من الحالات التي يزعم هؤلاء المتفوقون في علاج الجن أنهم يصيبون فيها إذا هم يخطئون فيها، وبالفعل يقع الضرب على الإنسي، ويصل أحياناً إلى إزهاق الروح بحسن نية هؤلاء القاصرين!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الصرع قسمان: صرع عضوي، وله أسباب عضوية معروفة وصرع جني -أي: عن طريق الجن- وله أسباب معروفة أخرى، وقسم كبير جداً من الصرع يعبر عنه الأطباء بـ (الصرع المجهول السبب)، وهذا هو الذي يقع فيه المس الجني غالباً.
أما الصرع العضوي فقد عرفه الأطباء بأنه: عبارة عن عاصفة كهربائية بسيطة أو قصيرة تحصل في الدائرة الكهربائية في الجهاز العصبي في جسم الإنسان.