اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نظرة في تاريخ العقيدة [1] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم
من جملة مزاعم القوم في هذا الباب: أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب هذه الصورة، أعني: صورة أنّ الإنسان مترقي من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءته، وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء.
ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في البنية البشرية، أعني: بنية الجسد؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً.
فنرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون ، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة، وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي: فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى.
فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض: فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيها: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبنزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبنزي انحدرا من أصل واحد، فعلى هذا: فهذا الأصل إذاً غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي.
فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان: من حيث التخلف العقلي، والبدائية أي: أنه منحني في مشيته، والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبنزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له؟!!
فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه: بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدروانية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.
الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، لكن الأصل أن الإنسان ملوث بالشرك، ميال بطبعه وفطرته إلى الشرك والوثنية، ثم إن التوحيد شرع بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.
فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!
الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً، بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.
فإذا كنا من خلال هذا التقديم قد رأينا أن مسالكهم التي يسمونها علمية لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، فإنّ العلم هو أن تصل إلى حقائق الأشياء على ما هي عليه في واقع الحقيقة، وعلى هذا الأساس فالحقائق الموجودة في الوجود لا تنحصر في الأمور المحسوسة.
فالأمور المحسوسة تعرف عن طريق المنهج العلمي المادي المعروف، وهو ما يسمونه بالمنهج التجربي، وهذه الطريقة تعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج، فهذا محصور في دائرة الأمور الحسية فقط.
فهذا ما يتعلق بالأمور التجريبية، فهي تخضع للحواس مثل: الذوق والشم النظر اللمس وهكذا، فمن خلالها نصل إلى الحقائق الحسية، وهذا الجانب من العلم تركه الله سبحانه وتعالى للبشر يجتهدون في استخراجه، واستنباطه، وإعمال عقولهم فيه، مع هدايته سبحانه وتعالى لهم.
أما القسم الآخر وهو الأخطر: فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك.
فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: اكتب.
وعرفنا أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش.
وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد.
وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه.
وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى: نعمة الوحي.
كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها، وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي.
وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم، بل هو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق.
وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى، وأفعاله، وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً.
إذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب، وتدخل إليه النفس عن ديانة الإنسان الأول.
فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلاً من عزيز حميد.
وحيث أنّا قد وصلنا إلى هذه النقطة فلنزدها إيضاحاً، وهي: أن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية:
أولاً: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلا سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها.
وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علم التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف.
وأقرب دليل على ذلك: أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة، أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة.
فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية.
أما السبب الثالث: فهو أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة، لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض .
فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى.
إنّ مثَل الفطرة مع الحق كبصر العين مع الشمس، فكل ذي عين مبصرة لو تركت عينه بغير حجاب عليها فإنه يرى الشمس، فالعقائد الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية مثل الحجاب على العين، فهي تحول بين البصر وبين رؤية الشمس.
كما أن كل ذي حس سليم يحب الحلو إلّا أن يعرض في طبيعته فساد يجعل الحلو في فمه مراً، فيقول: أنا أشرب العسل فأجد أنه مر، فنقول له: أنت فيك فساد في حاسة الذوق في لسانك، فالأجزاء الحسية في اللسان فيها آفة، أو عندك سبب آخر، فالأذى فيك أنت، وأما العسل فهو هو، فكذلك العين السليمة يستطيع الإنسان أن يرى بها الشمس، لكن قد تأتي الحجب فتحول دون رؤيتها، والعين نفسها مستعدة لتتقبل ضوء الشمس وتعترف به، لكن الحواجز الموجودة تحجب الرؤية، كما يقول الشاعر:
ومن يكن ذا مرّ فم مريضيجد مراً به الماء الزلالا
فتجد بعض الناس يصيبه مرض، فيقول: الماء مر، وأنا أشرب بمراراة، فهذا آفته في نفسه، وليست في هذا الماء الزلال.
ماذا نعني بقولنا: إن المولود يولد على الفطرة؟ هل معنى ذلك أننا ندعي -لأننا قلنا: إن الفطرة هي الإسلام- أنّ هذا الطفل الذي يرضع وعمره سويعات قليلة يعرف أسماء الله وصفاته، ويعقل الرسالة وأدلتها، والصلاة، والزكاة؟!
الجواب: لا، نحن لا ندعي ذلك، وإنما نعني سلامة القلب، وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث إن هذا الطفل لو ترك في نموّه الطبيعي من غير أن يخضع لمؤثر خارجي من الشياطين، أو من الوالدين، أو نحو ذلك لما كان إلا موحداً مسلماً.
فهذه القوة العلمية والعملية تقتضي الإسلام مالم يمنعها مانع كمؤثرات البيئة، وتقليد الأبوين، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فعند نمّو الطفل رويداً رويداً تبدأ هذه الفطرة تتحرك في أعماقه، ومع النمو تبدأ فطرة هذا الطفل تستيقظ وتتنبأ، وتجذبه بكل قوة نحو الحقيقة العظمى، ومن ثَم نلاحظ أنه في مرحلة معينة يبدأ الطفل بالسؤال عن بعض الأمور، وكلما كان الطفل نبيهاً وذكياً ستجد أنّ هذه الأسئلة تظهر مبكراً.
فيبدأ بإلقاء أسئلة لا تكاد تنتهي، فيسأل والديه عما يحيط به: من رفع السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ وأين تذهب الشمس ليلاً؟ ولماذا لا تظهر الشمس في الليل؟ وأين يذهب النور حين يحل الظلام؟ ولماذا تتلألأ النجوم؟ وأين تنتهي الأرض؟ ولماذا تفوح الروائح العطرة من بعض الأزهار دون البعض الآخر؟ ومن أين أتيتُ؟ وأين كنت قبل أن آتي إلى هذه الدنيا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي كلنا نحفظها وكلنا يعرفها
فهذه الأسئلة كلها أمارات تدل على أن الفطرة بدأت تستيقظ، ولذلك فالله سبحانه وتعالى من حكمته أنه ما يكلف الإنسان قبل سن البلوغ؛ لأن البلوغ يعبر عن ترجمة للنمو والنضج البدني، ويقارنه ماذا النضج العقلي الذهني والفكري، فهو في هذه السن يصبح مكلفاً، ويجري عليه قلم التكليف بمجرد البلوغ؛ ؟ لأنه الآن صار مهيئاً ومؤهلاً، فعليه أن يتفكر ويدرك.
فما الذي يدفع هؤلاء الأطفال إلى إلقاء هذه الأسئلة؟ إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفوسهم تبدأ في الاستيقاظ والتحرك والتعرف على خالق الكون وما في هذا الكون، وكلما نمت ملكاته وزاد علمه كلما اطمئن قلبه للإيمان بالله وحده لا شريك له.
فموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره، ومحبته، والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره.
كما أنه يولد على محبة ما يلاءم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟!
فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]؟ إنّه الفطرة.
إن ذلك الحديث الشريف الذي سبق ذكره وفيه: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه .. ) يؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيئاً للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه سبحانه وتعالى.
وأما الشرك، فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأبواه يهودانه ) ، أي: يجعلانه يهودياً إذا كانا يهوديين، (أو ينصرانه) أي: يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين، (أو يمجسانه) أي: يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين، والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود، بل هو من مؤثر خارجي.
فإن بلغ الحلم، وبقي منحرفاً عن دين الفطرة، بقي معه ضلاله، وإذا أسلم وجهه لله عز وجل انتفى عنه، وعاد إلى الفطرة الإسلامية.
ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يؤكد معنى الحديث فقال: (كما تنسج البهمية) يعني: كما تلد البهيمة (بهيمة جمعاء) أي: تامة الأعضاء، وسميت جمعاء؛ لاجتماع أعضاءها، فالمولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء كاملتها، (هل تحسون فيها) أي: هل تبصرون فيها (من جدعاء) يعني: مقطوعة الأذن، أو الأطراف أو الأنف، وإنما يطرأ عليها قطع الأعضاء بعد ولادتها سلمية.
فكذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما، ويزينان له العقيدة الباطلة.
وهذا الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف قد دل عليه الحديث القدسي الذي وراه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته حاكياً عن الله عز وجل أنه قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت عليهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).
فقوله تعالى في الحديث السابق: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: جمع حنيف، وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرجل، وهو ميلها إلى خارجها في القدم، فلا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا: الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وأن الشرك عارض طارئ.
فهذا ما تيسر من الكلام في شرح قوله صلى الله عيله وآله وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ).
ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ) إلى آخر الآية، وهذا الحديث رواه الشيخان كما بينا.
وللحديث إن شاء الله شيء من البقية، فهناك حقائق أخرى نصاً من القرآن في الرد على هذه المزاعم فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لدين الإسلام، ولفطرة التوحيد.
السؤال: احتج القائلون بالتطوير على زعمهم بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو : {كان خلق آدم ستون ذراعاً في السماء، ثم تناقص الخلق حتى وصل إلى هذه الحالة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما الرد الصريح على هذه الشبهة؟
الجواب: طول الإنسان الآن يقرب من متر ونصف أو أكثر، فهل في هذا تصحيح لنظرية التطور الكذابة؟!فقد عكسوا كل شيء، فقالوا: إنّ الأصل في الإنسان هو الشرك، ونحن نؤمن أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، وكذلك هنا في مسألة البنية والجسم، فالذي حصل هو عملية انحطاط في الجانبين: في العقدية، وفي البنية، ففي العقيدة الأصل هو التوحيد، ثم طرأ الشرك، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا [البقرة:213]، فالشرك طارئ كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وأما في بنية البدن نفسه، فهذا الحديث يثبت أن آدم عليه السلام كان في أكمل وأقوى وأجمل صورة: ستون ذراعاً في السماء، يصل تقريباً إلى ارتفاع عمارة مكونة من أربعة عشر دوراً ، فهذه خلقة آدم، فلا يزال طول الخلق ينقص إلى اليوم، فهذا يدل على أن بنية الإنسان أيضاً حصل فيها عملية انحدار ونقصان، لا تطور كما تزعم نظرية التطور.
وصلى الله على عبد ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نظرة في تاريخ العقيدة [1] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم
https://audio.islamweb.net