اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإخلاص وآثاره في تمكين الأمة للشيخ : محمد حسن عبد الغفار
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن الله امتن على هذه الأمة بمنن كثيرة ابتدأها بأن أرسل إليها خير رسله، وأكرم الخلق عليه سيد المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وأتم لهم النعمة بأن اختار لهم باقة هم أفضل البشر أجمعين بعد الأنبياء، فأفضل من صاحب نبياً هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم جيل ذكي نقي، إنه الرعيل من الصحابة الأخيار، وسادة الأمة الأبرار، الشموس المشرقة، والأقمار النيرة، والكواكب المتلألئة، وسحائب الخير الممطرة في سماء إسلامنا، هؤلاء الذين اصطفاهم الله جل في علاه لصحبة نبيه فأخلفوه في أمته فنصروا دينه ونشروا دعوتهم، وجابوا آفاق الدنيا بأسرها، وجابوا الأرض مشارقها ومغاربها، ففتح الله لهم قلوب العباد والبلاد.
هؤلاء الذين أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات، هؤلاء الشموس التي أشرقت في سماء إسلامنا، هم الأخيار، هم الأبرار، وهم أسمى الناس أخلاقاً، وأصدق الناس إخلاصاً، وأخلصهم إيماناً، وأثبتهم يقيناً:
أبو بكر كذا الفاروق منا ومنا خير من وطئ الترابا
إن الله صور لنا فضل هؤلاء تصويراً بديعاً مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في كتابه الجليل حيث يقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وقال جل في علاه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100]، وقال جل في علاه في هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
فـأنس بن النضر تخلف عن غزوة بدر؛ لأنه ظن أنها عير وليست بغزوة، فلما علم أنها غزوة قال: (تخلفت عن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن أبقاني الله لغزوة أخرى يغزوها رسول الله ليرين الله مني خيراً).
إنه رجل صدق الله فصدقه الله، ولذا قال: ليرين الله مني خيراً، وقد فر في غزوة أحد كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله لهم، وعفا عنهم، فهذا سعد بن معاذ سيد الأنصار قام ينظر إلى أنس بن النضر والكل يتخلف وهو يتقدم، فيقول: (ويحك يا أنس إلى أين تذهب؟ قال: إيه يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد)، فتقدم وقاتل ببسالة وشجاعة، فهو من تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الرجل جعله يتقدم بشجاعة وبسالة، فقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه كما قال الله عنه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23].
وانظروا إلى رجل يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم عن الإسلام خيراً، فيبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فيستعد للنفير، ثم يسمع المنادي فيجاهد في سبيل الله، فيقسم له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الانتصار في الغزوة قسم الغنائم، فقال: ما على هذا عاهدتك، وما على هذا بايعتك، فهم كما قال الله عنهم: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، قال: بايعتك على أن أغزو في سبيل الله، فأضرب هاهنا، أي: في عنقي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اصدق الله يصدقك).
وانظروا إلى هذا الصادق الذي صدق مع ربه فصدقه الله جل في علاه، قام في الغزوة ثم بعد أن انتهت أتوا به إلى رسول الله، وقد قتل في المكان الذي أشار إليه، قال الله تعالى: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، فهؤلاء الذين أنزل الله فيهم هذا الفضل، وهذا الخير العميم، أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فلو أنكم أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يبين أن الله قد ربط الأمان لهذه الأمة بوجود هؤلاء الصحابة الأخيار، حيث يقول كما في الصحيح: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد).
فقد ربط الله الإيمان والأمان بوجود هؤلاء الأخيار، وربط الله النصر بوجود هؤلاء الأخيار، ومن جاء على دربهم وسار مثل سيرهم.
وأيضاً: في البخاري ومسلم وأحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من أصحاب رسول الله؟! فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من صاحب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ويغزون فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فهؤلاء هم القدوة، وهؤلاء هم الأسوة، وهؤلاء هم الأخيار، ولو سرنا على سيرهم، وتمثلنا بما فعلوا لمكّن الله لنا كما مكن لهم، وانظروا إلى المشاهد الربانية والقواعد الإيمانية، كيف تمثلت أروع ما تتمثل في أفعالهم، فإنهم كانوا أصدق الناس إخلاصاً.
والإخلاص ركن ركين لقبول العمل عند الله جل في علاه، ومن عمل عملاً يرائي فيه غير الله فإن الله قد أحبط عمله، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].
والإخلاص عمل عزيز قد خير الله صحابة رسوله بهذا المشهد الرباني الإيماني، وأقر الله جل في علاه وأودع في قلوب الصحابة الكرام الإخلاص في القول والعمل ظاهراً وباطناً، وقد ضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة بالإخلاص لله، وكأنهم يقولون: مكن الله لنا، وجعل لنا القيادة والريادة والسيادة بالإخلاص لوجهه الكريم.
فهنيئاً لك يا أبا بكر! أن الله ينشر فضلك وإخلاصك الباطني من فوق سبع سماوات بقوله: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20]، وقوله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33]، قال علي بن أبي طالب: الذي جاء بالصدق: هو رسول الله، والذي أخلص في تصديقه هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وانظروا إلى أروع الأمثلة التي ضربها لنا أبو بكر في إخلاصه لله تعالى، فلما مات رسول الله -بأبي هو وأمي- أرعب القوم، بل فُشِّلوا جميعاً، ثم جاء عمر بن الخطاب فأشهر سيفه وهو يقول: لو قال قائل: إن محمداً قد مات لأعلونه بالسيف، وهو يتململ تململ السليم، وهو يقول: ما مات محمد أبداً، بل ذهب إلى ربه وسيرجع ليقطع أرجل وأيدي المنافقين، فجاء أبو بكر ليعلو بكلمته ويظهر إخلاصه لله، فمنهجه: لا نرتبط بأحد أبداً حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرتبط بأحد أبداً إلا بالله جل في علاه، فقلوبنا متوجهة توجهاً واحداً إلى الله، فالممدوح بحق من مدحه الله، والمذموم بحق من ذمه الله، والثواب عند الله، والعقاب عند الله. ويدخل أبو بكر على رسول الله وهو مسجى ثم يقبل بين عينيه ويقول: طبت حياً وميتاً بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ثم يخرج على عمر فيقول: اسكت، ولا يسكت عمر ، فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حيٌّ لا يموت.
وهذا أروع ما يكون من الإخلاص فإنه يتمثل في فعل أبي بكر .
فتحدث بإخلاصه، وعلم الله سريرته النقية، فأظهرها فنضحت على لسانه ووجهه، فقال: يا معشر المهاجرين! ويا معشر الأنصار! أما علمتم أن رسول الله ارتضى أبا بكر لدينكم، أما ترتضون أن يكون أبو بكر لدنياكم؟ قالوا: رضينا رضينا، ثم قام فقال: يا أبا بكر ! ابسط يدك، فبايع أبا بكر وتتابع الناس على بيعة أبي بكر ، فانظروا إلى الإخلاص؛ فقد كاد عمر يتقدم سيد الناس أجمعين بعد رسول الله، لكن الإخلاص حجمه وأحجمه وقال: لا، والله لا أتقدم على أبي بكر ، وهذا إخلاص عاشوه واقعاً، ولو أردنا ما أرادوه فلا بد أن نفعل ما فعلوه، ولابد أن نسير على دربهم ونفعل مثل فعالهم.
عبد الحجارة من سفاهة رأيهوعبدت رب محمد بصواب
لا تحسبن الله خاذل دينهونبيه يا معشر الأحزاب
إن الإخلاص الذي بثه الله في قلوب الصحابة هو الذي مكن لهم، وهو الذي أعلى شأنهم، وهو الذي أعلى ذكرهم، اللهم ألهمنا الإخلاص يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من المخلصين لك، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم أما بعد: يقول ابن مسعود : (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أصفاها وأنقاها وخيرها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطفاه الله لرسالته، ونظر بعد ذلك في قلوب العباد فوجد أصفاها وأنقاها وخيرها وأفضلها قلوب أصحابه رضوان الله عليهم فاختارهم وزراء لنبيه)؛ نصرة لدينه ونشراً لدعوته، وهؤلاء هم الأفاضل الأكارم الأماجد، وهم القدوة، وهم السلف، وهم الأسوة.
و ابن المبارك كان يقول: إن من السنة تعليم حب أبي بكر وعمر ، وسئل ابن المبارك أيضاً: من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر .
وعن مالك إمام دار الهجرة أنه قال: كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر .
وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (حب صحابة رسول الله من السنة).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)، وما زلنا مع المشاهد الإيمانية والقواعد الربانية ومع هؤلاء القادة السادة، وهؤلاء الأخيار الأماجد الأكارم، مع هؤلاء الأبرار، فهناك مشاهد ربانية إيمانية أودعها الله في قلوب هؤلاء الأخيار، فالإخلاص سر بين الرب وبين العبد لا يعلمه إلا الله جل في علاه، والله يغار، وغيرة الله أن يجعل العبد الشيء في غير موضعه، فمن حكمة الله: أن أودع في قلوب الأخيار الإخلاص له.
وانظروا للمكافئة من الرب الجليل، فـخالد بن الوليد بعد أن أصبح جندياً تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح في غزوة قنسرين أبلى بلاءً حسناً، فأمره أبو عبيدة عليها، فبعث لـعمر وقال: أمرت خالداً ، فبكى عمر وقال: والله! إن خالداً يؤمر نفسه، رحم الله أبا بكر كان أعرف بالرجال مني.
وقام المقداد إخلاصاً لربه جل في علاه، فقال: (يا رسول الله! والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون) .
فهؤلاء هم الأخيار، وهم الأبرار، ومن أراد أن يتأسى فليتأسى بمن مات، ومن أراد القدوة والأسوة، فهؤلاء هم القدوة، ومن أراد العزة والتمكين، وأراد الرفعة، ومن أراد الدنيا والآخرة فهي عند رسول الله، وعند أصحاب رسول الله، فافعل مثل ما فعلوا، وسر على دربهم تصل، وإذا صنعت ما صنعوا، وأخلصت كما أخلصوا كافأك الله كما كافأهم.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإخلاص وآثاره في تمكين الأمة للشيخ : محمد حسن عبد الغفار
https://audio.islamweb.net