إسلام ويب

لا قيمة للعالم -فضلاً عن طالب العلم أو الداعية- إلا بمقدار ما يؤثر ذلك العلم على عبادته وسلوكه وتصرفاته، فكم من عالم باع دينه لغرض من الدنيا، وكم من عالم قدم صورة مشوهة للعلم وللدين بتذللـه للحكام والأمراء وأصحاب الأموال، وكم من عالم زلت به قدمه إذ لم يكن مخلصاً، وكم من عالم حرم الناس من علمه باعتزالهم والإعراض عن تعليمهم ودعوتهم والعالم المتخلص من كل تلك الصفات هو العالم الرباني الذي حقق مقصود الشارع من إيجاد العلماء.

من هم الربانيون

الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، فله الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأصلي وأسلم صلاة وتسليماً دائمين إلى يوم الدين على نبيه ومصطفاه من خلقه نبينا محمد، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فصلى الله عليه وسلم.

ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه وأمرنا به، ولا شراً إلا بينه وحذَّرنا منه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزي نبياً عن أمته، فقد أبلى فينا البلاء الحسن، وسهر ليله، وتعب نهاره، وشاب شعره، وأنهك جسمه، ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا الدين نقياً مصفى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

أما بعــد:

فأشكر لكم جميعاً يا أهل الأسياح بكل مدنها وقراها، أشكر لكم عظيم حرصكم على حضوري، حيث كان أعداد منكم من الشباب وغيرهم يتوافدون إلى مسجدي يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، يلحون في الحضور، وكنت أشعر بإحراج شديد لتأخري في تلبية هذه الدعوة، إذ أعلم أنه ما دفعهم لذلك إلا حسن الظن بي، وإن كنت أعلم يقيناً أيضاً أنه حسن ظن في غير مكانه، لكن لا أريد أن تضيع الأوقات في مثل هذا، ولذلك أستغفر الله مما قاله أخي المقدم فقد أسرف فيما ذكر، وأسأل الله أن يعفو عنه وعني وعنكم أجمعين ما زلت به ألسنتنا، إنه على كل شئ قدير.

وهذه الليلة هي ليلة الثلاثاء، السادس من شهر صفر، من سنة 1413 للهجرة، وعنوان هذه الجلسة جزء من آية من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباًأَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون [آل عمران:79-80].

من مصائب الأمة أيها الأحبة: الجهل: وطالما تمرغت الأمة في ظلمات الجهل بعيدة عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقل عن الجهل مصيبة العلم المؤسس على غير هدى ولا كتاب منير، فنحن لابد أن نحارب الجهل، ولكن -أيضاً- لابد أن يكون العلم الذي ندعو إليه مؤسساً على الأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرباً إلى الله عز وجل.

وطالما رأت الأمة شباباً، كما وصفهم أحد الإخوة لي في رسالة بعث بها، يقول: إن بعض الشباب في بلاد إسلامية؛ كان أحدهم إذا استيقظ في آخر الليل يدير مؤشر الراديو قبل أن يفتح الصنبور ليتوضأ لصلاة الفجر، فلا شك أن مراجعة المسيرة، وتصحيح الخطأ، والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليها الصالحون والمصلحون.

إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاً بسيطاً لا يعرف متى وقعت -مثلاً- معركة بدر، فقلت له: وقعت معركة بدر -مثلاً- سنة اثنين من الهجرة حفظها، لكن لو كان سمع طفولته أن معركة بدر وقعت سنة ست من الهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود، لأن الموجود لديه جهل مركب.

إذاً فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يقبل من غيره.

هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) ومعنى الآية: أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر -النبي أو الرسول- أن الله تعالى يمنحه الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس: كونوا عبيداً لي، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادته هو، وإنما يدعوهم إلى الله، فيقول للناس: كونوا ربانيين، لا يأمرهم بغير ذلك، فلا يأمرهم بعبادة نفسه، ولا يأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة والنبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز وجل، وكيف يأمرهم بالكفر وهو إنما جاء وبعث بالإسلام؟

ربانيون: منسوبون إلى الرب، وقد ذكر ابن الأنباري هذا عن النحويين، وهو على كل حال نسبة على غير قياس، كما يقال: شعراني.

ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره: في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون.

ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه.

ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف.

ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى؛ كما هو قول الحسن أيضاً.

وهؤلاء توفرت فيهم صفات:

من صفات الربانيين العلم

الصفة الأولى: العلم: (تَعَلَمُونَ) هكذا قرأها جمهور القراء (تَعَلَمُونَ).

إذاً هم علماء وهذه من أخص صفاتهم: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] إذاً هم أساتذة، وشيوخ، وفقهاء، ومفتون أقبلوا على علم الشريعة، علم الكتاب والسنة فرفعهم الله تعالى به.

منزلة أهل العلم

قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] وقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] فقرن أولي العلم مع ملائكته وأشهدهم على ذلك مع ذاته المقدسة فدل على رفعة قدرهم.

وقال عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول وقبل العمل (فاعلم) هم علماء والعلم حياة، ولهذا قال الشاعر:

أخو العلم حيٌ خالد بعد موته>>>>>وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى>>>>>يظن من الأحياء وهو عديم

وقال آخر:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله>>>>>وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم>>>>>وليس لهم حتى النشور نشور

فهم أموت غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسمائهم على كل لسان، فأنت اليوم -مثلاً- لو سألناك عن أعظم عالم في القرن السابع وأوائل الثامن، لقلت: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأصبح يعرفه الكبير والصغير، لكن لو سألناك -مثلاً- من هم تجار ذلك القرن؟ هل تعرفهم؟ لا تعرفهم ومن هم حتى قواد الجيش في هذا القرن؟ قد لا تعرفهم، ومن هم أصحاب السلطة والجاه في هذا القرن بأسمائهم؟ قد لا تعرفهم.

لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه؟! كلما تقدم الزمن زادت شهرته ومكانته؟ حتى إن مكانته اليوم -وأجزم بهذا- عند المسلمين أعظم بكثير من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم، ففي ذلك الوقت خصومه كثير، ضايقوه، وحاربوه، وأحرقوا كتبه، وكادوا له حتى وقع في غياهب السجون، ومنعت فتاواه زماناً، بل حاولوا أن يضربوه في بعض المناسبات، لكن اليوم أبى الله عز وجل إلا أن يظهر حقه على باطلهم فماتوا وبقي ابن تيمية حياً:

يا رب حي رخام القبر مسكنه>>>>>ورب ميت على أقدامه انتصبا

الجهل وخطره على الإنسان

ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده.

فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها>>>>>كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا.

وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي. ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء.

أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا.

أحياناً يخطر في ذهني سؤال: العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها.

هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت.

ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي.

كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه.

إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].

إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم.

من صفات الربانيين الاتباع

الميزة الثانية: هي الاتباع فليس هذا العلم الذي يتعلمه هو قال: فلان، وقال: علان، لا، وإنما هو علم الكتاب؛ ولهذا قال في الآية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79] الكتاب المنـزل من الله تعالى على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

معنى الاتباع

إذاً فالمقصود بالعلم هو: العلم الشرعي المنبثق من الوحي، (من الوحيين الكتاب والسنة) {ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح، (القرآن والسنة) فالعلم إما آية محكمة، أو حديث صحيح، أو إجماع قائم قال الشاعر:

العلم قال الله قال رسوله>>>>>>>>>>>>>>>قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة>>>>>>>>>>بين الرسول وبين رأي فقيه

وقال غيره:

العلم قال الله قال رسوله>>>>>>>>>>قال الـصحابة هـم أولوا الـعرفان

يقول الإمام ابن رجب -رحمة الله تعالى عليه-: العلم النافع من هذه العلوم كلها -لأن العلوم اليوم كثيرة عند الناس فيحتار الإنسان- ماذا أتعلم؟ وبماذا أبدأ؟ نقول: عليك بعلم الكتاب وعلم السنة، يقول ابن رجب: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور.

كلام قصير يغني عن كثير، ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور، لا تأتِ لنا بمعنى لم تسبق إليه، لا تقل في مسألة ليس لك فيها إمام كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وحين نقول: الكتاب والسنة فهما يشهد بعضهما البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان شارحاً ومفسراً للقرآن بقوله وفعله، فأما بقوله؛ فإن السنة تبين القرآن، وتُفصِّل مجمله، وتوضح معانيه.

وأما بقوله: فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت للسائل: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن، ولهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدب على وجه الأرض، وهذه الكلمة وإن كان فيها تسامح ومجاز إلا أنها تعبير دقيق وجيد عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام.

ترك نصوص الكتاب والسنة والانشغال بالآراء

إن الفقه حقاً هو القرآن والسنة وفهم معانيهما، وأما أقوال الرجال، قال فلان، وقال علان، فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن أو تفسيراً للحديث، ولا ينبغي أن يشتغل الإنسان بها إلا بقدر ما تكون بياناً لهذا أو لذاك، ولهذا لما تشاغل الناس بأقوال الرجال ظهر مصطلح أهل الفقه وأهل الحديث وتميزا، والواقع أن الفقه والحديث شيء واحد، ما الفقه إلا علم القرآن والسنة حفظاً، وفهماً، وعلماً، وعملاً.

ولذلك أنكر الأئمة كـابن الجوزي والخطابي وغيرهما التفريق بين أهل الفقه وأهل الحديث، بل الفقه والحديث شيء واحد، ولهذا -أيضاً- لم يعتبر العلماء أن المقلد تقليداً محضاً أنه عالم، الذي يقلد فلاناً وفلاناً هذا ليس بعالم، حتى قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، والدليل: آية أو حديث أو إجماع، فهذا هو العلم، أما كونك سمعت فلاناً يفتي بكذا، وسمعت فلاناً يقول كذا، فهذا لا يعد علماً، وإنما هو تقليد قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد فقط، أما طالب العلم فلا.

من صفات الربانيين الإخلاص

الصفة الثالثة لهؤلاء الربانيين: الإخلاص والنية، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات} ويقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس وغيره: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية}؛ فيعبد الله تعالى بالنية الصالحة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15] -بنيته وقصده- مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:15-16].

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:18] يقول الزهري وهو من خيار التابعين: [[ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العلم]].

إذاً وأنت تتناول العلم حفظاً، أو دراسةً، أو تأليفاً، أو تعليماً فأنت تعبد الله بهذا، ويقول سفيان الثوري: [[لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم؛ لأن العالم هو وريث النبي، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم]].

جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق وهم يتبايعون ويتشاورون، فقال: [[أنتم ها هنا وميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فتركوا بضائعهم، وذهبوا يركضون إلى المسجد فدخلوا فما وجدوا إلا حلقة هنا تعلم التفسير، وحلقة تعلم الحديث، وحلقة هنا وحلقة هناك، فرجعوا، وقالوا: يا أبا هريرة -غفر الله لك- ما رأينا شيئاً، قال: ذهبتم؟ قالوا: نعم، قال: فماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يعلمون القرآن، وقوماً يعلمون التفسير، وقوماً يعلمون الحديث، قال: وهل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا؟]].

ويقول ابن وهب وهو من تلاميذ الإمام مالكقال: كنت عند مالك وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلم، ويبين، قال: فأذن المؤذن فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها، فقال الإمام مالك على رسلك -ترفق- ليس الذي تقوم إليه -من التنفل قبل الفريضة- بأفضل من الذي تقوم عنه من العلم إذا صحت النية.

إذاً فالعلم عبادة، ولابد لطالب العلم وهو يتناول العلم من أن يشعر أنه يتعبد الله تعالى ويتقرب إليه بالتعرف على حكمه في المسائل، والتعرف إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتعرف إلى أنبيائه بمعرفتهم ومعرفة حقوقهم، وما أشبه ذلك من ألوان العلم وصنوفه.

وهذا الوصف، وصف الإخلاص والنية هو من أخص معاني الربانية: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] أي: إرادة وجه الرب تبارك وتعالى فيما يأخذ الإنسان ويدع، وبها يبارك الله تعالى في العلم، وبها يُثمر العلم وينفع، فأنت تجد أن الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس، لا، ولا أكبر الناس عقولاً، ولا أكثر الناس علماً أيضاً، ولكن بارك الله في علمهم، ونفع الله به؛ لأنه كان فيه الإخلاص، فكان يخلط مع علمه شيئاً من الإخلاص، وهناك علم غزير ولكن بلا روح، ولا إيمان، ولا إخلاص، ولذلك لم يبارك الله تعالى فيه فقل المنتفعون به.

من صفات الربانيين السمت والوقار

الصفة الرابعة: خلق العلم وأدبه: بالسمت والوقار غير المتكلف، والقدوة في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان أعظم العلماء على الإطلاق، ومع ذلك إذا وجدت هديه، وأدبه، ومعاملته للناس تجد أمراً يعجز عنه الآخرون، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام التي ميزه الله بها، ففي مجال العلم هو البحر لا يدرك ساحله، لكن -أيضاً- تأتي إليه عليه الصلاة والسلام فتجده متواضعاً مع أصحابه، يمازحهم، ويضاحكهم، ويأخذ معهم حتى ربما تكلموا في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة والسلام.

إنما كان له من الهيبة والوقار في نفوسهم شيء عظيم، حتى إنه سها يوماً من الأيام في صلاة، كما في الصحيحين وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فلم يجرؤوا على أن يقولوا له: سهوت يا رسول الله، حتى أبو بكر وعمر أخص أصحابه هابا أن يكلماه، حتى قام رجل اسمه الخرباق، يقال له ذو اليدين فقال: {يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لا، ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو ثم سلم عليه الصلاة والسلام}.

من صفات الربانيين مخالطة الناس

من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى، والتخلق معهم بالخلق الفاضل، لقوله تعالى: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79] تعلمون من؟ تعلمون الناس، وكيف تعلمونهم وأنتم في أبراجكم العاجية؟! وكيف تعلمونهم وأنتم في مكتباتكم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم تغلقون أبوابكم في وجوههم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم؟ هذا لا يكون.

إذاً لابد من مخالطة الناس، وفي حديث وهو صحيح عند أصحاب السنن عن ابن عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم}.

إذاً: لابد من مخالطة الناس، مخالطة فيه الاقتصاد، يعطيهم قدراً من وقته، نحن لا نقول للعالم: دع أعمالك، وعلمك، ومشاغلك، وأمورك، وتفرغ للناس، هذا لا يكون ولا يطالب به أحد! بل هو مما لا يستطاع، لكن لابد أن يخصص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى، ويتفرغ فيها لأمورهم وهمومهم وشئونهم.

ومن عجيب وبديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله؛ أنه قسم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف، قال: من الناس من مخالطته كالغذاء، مثل الطعام الذي تحتاج إليه بين وقت وآخر كالغذاء، وهذا هو العالم الرباني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ولكن لتستفيد وتمتح من علمه.

الثاني: من مخالطته كالدواء، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، وهذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك في مشاورة أو أمر أو ما أشبه ذلك، أو تريده في أمر من أمور الدنيا فهذا كالدواء، ومن الناس من مخالطته كالداء مثل المرض، والمرض كما تعلم أنواع: من الأمراض مرض عضال لا يشفى منه الإنسان، ومن الأمراض مرض مثل وجع الضرس، وهذا بمجرد ما تقلع هذا الضرس يزول المرض، وهذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول، فإذا غادرته زال الألم؛ فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم.

ومن الأمراض، أمراض الحمى التي لا تكاد تفارق الإنسان، ومن ذلك -مثل ما ذكر- مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد، ولا هو بالذي يسكت فيستفيد هو، فلا يستفيد ولا يفيد.

ومن الناس من مخالطته هي الموت بعينه، وهو الإنسان الذي يضرك في دينك، إما بضلالة، أو ببدعة، فتبين بذلك أن مخالطة الناس أربعة أصناف:

منهم من هو كالغذاء، ومنهم من هو كالدواء، ومنهم من هو كالداء، ومنهم من هو الموت، فعليك أن تختار لنفسك وتعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها، يكثر فيها القيل والقال، والغيبة، والمجاملة، والتصنع، وربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة، والمفارقة، واكتشاف العيوب، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة، ولهذا جاء في حديث روي مرفوعاً عند الترمذي وغيره، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه، أنه قال: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} اقتصد في الحب، والبغض، والمخالطة، والعزل.

إذاً العالم الرباني ليست مهمته التعامل مع الكتب -مثلاً- فقط فهذه وظيفةٌ سهلة، ولكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز وجل وتوجيههم، ومشاركتهم في آلامهم، ومشاكلهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأن يكون قريباً من نفوسهم وقلوبهم، ولا يجوز أن تخلو الساحة من العلماء العاملين، العالمين، المخلصين؛ لأن خلوها أتاح الفرصة للأشرار، الأشرار الذين رفعوا يوماً من الأيام لواء الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه بتحرير المرأة، فأفسدوا نساء المسلمين باسم الدفاع عن المرأة، ولماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماء العاملون المخلصون؟ فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلم أو ضيم يقع عليها، دفاع بالشرع لا بالهوى، ويكسبون المرأة إلى صف الإسلام والمسلمين.

الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال والنشء، وأعدوا لهم البرامج والكتب وغير ذلك، فربوهم على غير هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل العلماء العاملون المخلصون، أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم؟ حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح، منهج الكتاب والسنة.

الأشرار: الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال، والدفاع عنهم: يا عمال العالم اتحدوا، ورفعوا هذه الراية فضلوا وأضلوا، ولا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجة، وأصح منهجاً من حملة الكتاب والسنة لو تصدوا لهذا واهتموا به، ودافعوا عن حقوق العمال بالحق لا بالباطل.

الأشرار: الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس، فتبعهم بذلك الفقراء كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور:39] ولماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشئون الناس من الفقراء والعمال والمظلومين وغيرهم؟ ولماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين، ويبقى العالم منعزلاً في بيته أو في مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خير أو شر، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطها وأي شيء تكون؟

بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية، فتظهر السخرية به في التلفاز، أو تظهر السخرية به في كاريكاتير ينشر في جريدة، أو تظهر السخرية به في مقرر مدرسي؛ فلا يجد العالم من يغضب له، لماذا؟ لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار، وإلا فالناس في كل بلاد الإسلام عندهم عاطفة دينية، ولو أن أحداً تناول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوجدت الغضب، لماذا؟ لأنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فدل على أن أصل العاطفة الدينية عندهم موجود، ولكنها تحتاج إلى بعث، وإلى إثارة، وإلى تحريك، والذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس؛ متى أقام الجسور بينه وبينهم.

إذاً لابد من المخالطة على منهاج النبوة.

من صفات الربانيين العزة بهذا العلم

من الصفات التي لابد أن يتحلى بها العالم وهي من أخلاقيات الربانيين: العزة بهذا العلم، والترفع عن الأغراض الدنيوية، ولهذا الله عز وجل قال في الآية نفسها: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [آل عمران:79] فالذي أوتي الكتاب، وأوتي الحكم، ماذا ينظر إلى الدنيا؟

خذوا كل دنياكم واتركوا>>>>>فؤادي حراً طليقاً حبيبا

فإني أعظمكم ثروة>>>>>وإن خلتموني وحيداً سليبا

فالعالم الذي أوتي الكتاب والحكم يرى أن أهل الدنيا في وادٍ وهو في وادٍ آخر، مثل ما كان يقول ابن تيمية رحمه الله: ماذا يصنع بي الأعداء؟! إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فأنا في وادٍ وهم في واد، والعز بن عبد السلام لما قيل له: تعال قبل رأس السلطان من أجل أن يسامحك ويعفو عنك تبسم وقال: مساكين! أنتم في واد وأنا في واد، أنا ما أرضى أن السلطان يأتي ويقبل يدي، فكيف أنا أقبل يده؟! وسيد قطب رحمه الله لما قيل له: اكتب كلمة اعتذار ونسمح عنك عن الإعدام، قال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية.

فالذي أوتي الكتاب، وأوتي العلم، وأوتي الحكم -أي: الحكمة والفهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يترفع عن أعراض الدنيا وسفاسفها.

ثم أن الله تعالى قال: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] منسوبون إلى الرب، والربانيون من أهل الآخرة، الدنيا قد يملكونها بمال أو غير ذلك، ولكنها عندهم مثل الفراش الذي يقعد عليه، ومثل الحمار الذي يركبه، يستخدمه ولا يخدمه، يستخدمون الدنيا ولا يخدمونها فهم ليسوا عبيداً لها، ولهذا ازدروا الدنيا ورأوا أنها ليست أهلاً لأن يريقوا شرفهم من أجلها، هذا الشافعي رحمه الله يقول:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها>>>>>وسيق إلينا عذبها وعذابها

فما هي إلا جيفة مستحيلة>>>>>عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها>>>>>وإن تجتذبها نازعتك كلابها

وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: {دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس}، فتكسب محبة الله تعالى ومحبة خلقه بأن تجعل الدنيا تحت قدميك، ومع ذلك سوف تكون من أحسن الناس دنياً، أي قيمة لأموال طائلة موجودة في الرصيد لإنسان يُقِّتر على نفسه وولده.

إذاً لماذا تجمع الدنيا، هذه العزة والترفع تكسب الإنسان الهيبة عند العامة والخاصة؛ لأنهم يعرفون علو همة هذا الإنسان، وأنه ينظر إليهم فيرثي لحالهم، ويعرفون -أيضاً- أن هذا الإنسان من الصعب أن يصطاد.

ولهذا وضع بعض الخلفاء للعلماء طعماً من الدنيا، أعطى هذا أرضاً، وأعطى هذا مالاً، وأعطى هذا ولاية، فقبلوا كلهم إلا واحداً من العلماء -مع الأسف كان من علماء البدعة معتزلياً اسمه عمرو بن عبيد- رفض وما أخذ شيئاً نفض يده، فقال الخليفة يخاطب العلماء:

كلكم يمشي رويدا >>>>>كلكم يطلب صيدا غير عمرو بن عبيد

عمرو بن عبيد هو الوحيد الذي ثبت أنه لا يريد الدنيا أبداً، الدنيا تحت نعله لا يمكن أن يجامل من أجلها، فلذلك يكسب العالم بعزته يكسب هيبة الخاصة والعامة من أهل الدنيا وأهل الرياسة, وأهل المال، وأهل الجاه، وغيرهم.

ولهذا من القصائد المشهورة المعروفة التي تساق في هذا المجال كلمة وقصيدة للإمام القاضي الجرجاني التي يقول فيها وهي قصيدة طويلة:

يقولون لي فيك انقباض وإنما>>>>>رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى النـاس من داناهم هان عندهم>>>>>ومن أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقضِ حق العلم إن كـان كلما>>>>>بدا طمع صيرته لي سلما

ما هذا حق العلم أن تجعله سلماً إلى لمطامع الدنيوية.

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة>>>>>إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما

وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت>>>>>أقلب كفي إثره متندما

إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى>>>>>ولكن نفس الحر تحتمل الظما

ولم أبتذل في خدمه العلم >>>>>>>>>>مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

يقول: أنا عزيز لا أذل العلم.

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم>>>>>ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهان، هان وهانوا معه.

العالم الذي يجلس عند رجل في مجلسه، فإذا قام قام معه وإذا قعد قعد معه، أي قيمة لعلمه، العالم الذي يدخل على قوم لديهم يسمعون ما يسوء ولا يجوز، فلما رأوه قاموا احتراماً وتقديراً له، فأغلقوا مصدر الصوت، فبدلاً من أن يفرح بذلك اتجه إليهم يوبخهم ويعاتبهم، ويقول لمن أغلق مصدر الصوت: لماذا تفعل؟ إذا كنت أنت لا تريده فغيرك يريده دعه وما كان عليه.

من صفات الربانيين الحكمة

من صفات وأخلاق الرباني: الحكمة: ولهذا قال ابن عباس فيما رواه البخاري في صحيحه تعليقاً في كتاب العلم في تفسير قوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] قال ابن عباس: [[حكماء فقهاء]] وقال البخاري: ويقال: الرباني الذي يربي بصغار العلم قبل كباره.

الحكمة في العلم

إذاً: فالعالم الرباني حكيم في علمه، يضع العلم في موضعه، ولا يصرف العلم لمن ليس له بأهل، فمن الحكمة أن يكون حكيماً في علمه يضعه في موضعه، ولا يضعه أو يقدمه لمن لا يناسبه، فمثلاً عامة الناس يحتاجون إلى حكمة في إيصال العلم الذي يجب أن يتعلموه، فتيسر وتسهل لهم العلم الشرعي حتى يمكن أن يصل إلى العوام من النساء والرجال والكبار والصغار وغير المتخصصين، تيسيره باللفظ والقول، والفعل، وتسهيله من خلال دروس للعامة، من خلال كتيبات، من خلال أشرطة بحيث يكون العلم الشرعي متاحاً لكل إنسان يريد أن يتعلم بالتسهيل والتيسير، هذا لابد منه، تأتي بعبارة لبقة بحيث أن هذا العلم يكون للناس كلهم، هذا صحيح.

لكن -أيضاً- ليس من الحكمة أن تأتي إلى هؤلاء العوام، فتدخلهم في أمور ليسوا بحاجة إليها، تحشدهم مثلاً من أجل الرد على خطأ العالم الفلاني، فتجمع العامة ثم تقول لهم: فلان أخطأ في كذا، وأخطأ في كذا، وتأتي ترد عليه بالآيات والأحاديث وأقوال من أهل العلم ونحو ذلك، حتى لو كان أخطأ فعلاً في اجتهادلم يحالفه فيه الصواب، لماذا؟ لأنك إن حشدت ضمائر العوام على هذا العالم فانتظر منهم كل شيء، انتظر أن منهم من سوف يكون معك، فينـزل على ذلك الذي خطأته بكل قول سيء، وربما وصل إلى تفسيقه، أو تضلليه، أو تبديعه، وربما تكفيره، وربما شتموه، وانتقصوه، ووقعوا في عرضه وأنت السبب في ذلك كله.

وماذا يهم العوام من شأن فلان وفلان؟ يهمهم هم العلم الموصل إلى الجنة، ودعهم وما هم فيه، لا يحتاجون إلى مثل هذا، ولا ينتفعون به، وإن حشدتهم إليه فتوقع منهم كل شيء، وربما كان بعضهم ضدك، ولم يقتنع بما قلت؛ فأصبح في المجالس يتحدث عنك، ويخطئك، وينتصر لذلك العالم فأحدث ذلك شرخاً عظيماً يصعب سده وردمه، وأصبح العوام أحياناً حكاماً بين العلماء، أصبح العامي حكماً فلان أخطأ وفلان أصاب، لماذا؟ أنت جررته إلى هذا الميدان الذي هو ليس ميدانه، فهذا من الحكمة أن تضع العلم في موضعه.

الحكمة في مخاطبة الناس

ومن الحكمة أيضا ألا تصدم الناس بما هو أكبر من عقولهم فيكون هذا سبباً في ردهم وتكذيبهم، وفي الأثر: [[خاطبوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ]] قاله على بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول الغزالي في إحياء علوم الدين: كِل لكل عبد بمعيار عقله -بقدر عقله- وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه من قوله أو إنكاره، حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وكم من إنسان خُطِّئ وبدع، وربما ضلل وهو على حق؟ لكن لأنه تكلم بهذا الكلام في وسط قوم لاتسع عقولهم ما قال، أو أن هذا الكلام بُلِّغ إليهم من غير طريقه، فخطئوه وهم المخطئون، وضللوه وهم الضالون.

ومن الحكمة أن يبدأ بالأهم قبل المهم، فيشتغل بالعلوم الضرورية قبل العلوم الحاجية، وبالعلوم الحاجية قبل العلوم التحسينية، فالعلم الذي يضطر إليه اليوم ويفوت كوقت الصلاة -مثلاً- فيتعلمه الآن؟ ويقدمه على علم يحتاجه فيما بعد، والعلم الذي يحتاجه يقدمه على بعض الأشياء التي هي من باب الكمال ولكنه قد لا يحتاج إليها.

وكذلك لابد أن يكون حكيماً في عمله، فمثلاً: ليس مناسباً أن يعمل أمام الناس عملاً هو يعرف أنه مباح، لكن الناس يستنكرونه ويستكثرونه منه، فيُسِرُّ بهذا العمل ما دام أنه يعرف أنه ليس فيه شيء من الشرع، يُسِرُّ به لئلا يراه الناس فيستغربونه ويستنكرونه.

ولهذا من عجيب ما يقال: أن عالماً سجنه أحد الطغاة في السجن، وقال له: لابد أن تأكل لحم الخنـزير، تجلس على مائدتي، وتأكل معي لحم الخنـزير لابد من ذلك، فأبى، فأتاه بعض الطباخين المخلصين من خدم الملك، وقالوا له: نحن سوف نضع لك لحم ضأن، لكن كل من أجل تفتدي نفسك وتخرج من السجن، فقال: لا آكل، قالوا: لماذا؟ قال: من يبين لهؤلاء العوام بأن ما آكله هو لحم ضأن؟ سيظنون أن ما أكلته لحم خنـزير فيستحلون بذلك، أو على أقل تقدير يرون أنني أكلت حراماً، وأنا عالم يُقتدى بي في فعلي كما يقتدى بي في قولي، فلا أفعل، وأصر على موقفه، هذا من الحكمة.

ومن الحكمة أن يكون حكيماً في تعليمه، يُعطي كل أحد ما يستحق، يخص بعض الناس بالعلم الذي يناسبهم، يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويبدأ بالأهم قبل المهم، ويتدرج إلى غير ذلك مما سوف يأتي.

من صفات الربانيين التواضع

ومن أخلاقيات العالم الرباني التواضع أو معرفة قدر النفس وهضم الذات، فلا ينتصر لنفسه، ولا يؤذي غيره بقول أو فعل، ولا يرد الحق إذا عرفه، ولا يشتغل بالناس.

من التواضع عدم الاشتغال بالناس

يقول ابن دقيق العيد لرجل وقد رآه يطلب العلم فأعجبه، قال له: أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته؛ فلا تهجوا أحداً.

لا تهجو أحداً: لا تجعل لسانك يصول ويجول في أعراض الناس لأنك طالب علم، فتفتخر عليهم، وتقول كل شيء يخالف الشرع، وتأتي لفلان وعلان، وتضربهم بسياطك بحجة أنك أنت الناطق الرسمي باسم الشرع، لا،هذا ما يصلح، قال: فما تكلمت في أحد قط.

ليس من صفات العالم الرباني الخصومة واللجاج في كل شيء ولسبب ولغير سبب، ولهذا الله عز وجل نفى في هذه الآية عن الأنبياء وعن الربانيين أنهم يدعون الناس إلى أنفسهم، لا يدعون لأنفسهم فتضمن ذلك أنهم لا يغضبون لحظوظهم الدنيوية، ولا يسعون إلى رفعة أنفسهم على حساب الآخرين -مثلاً- ولا يغضبون لأن فلاناً ما التفت إليهم، أو ما اتجه إليهم، أو ما أشبه ذلك، إنما غضبهم للحق وحتى غضبهم للحق، هو غضب يتبعه حرص على التصحيح.

فهذا الإنسان الذي رأيت أنه أخطأ أعامله بالحسنى رجاء أن يعود إلى الحق، فمن غضبي للحق ألاَّ أظهر غضبي، بل أظهر له اللين تأليفاً لقلبه، فإن رأيت أن عنده إمكانية القبول والأخذ والرد معي فلا أغضب عليه، فإن وجدت أنه مبتدع -مثلاً- وأنه مصر، وأنه مجاهر، وأنه معاند للحق حينئذٍ لكل مقام مقال.

يقول الجاحظ: "وأنا أحذرك من اللجاج، فإنه لا يكون إلا من خلل القوة، ومن نقصان قد دخل على التمكين، واللجوج في معنى المغلوب"، نعم! هذا كلام علمي رصين، اللجوج: هو الذي تجده يرفع الصوت ويصرخ يبهرج الكلام هذا مغلوب، أما الإنسان الواثق الغالب فتجده قوياً بالحجة، ولو كان صوته هادئاً، ولو كانت نبرته هادئة، لكنه قوي بالحجة، قوي بالبرهان، ومع ذلك لا يلتفت إلى هذه الأعاصير وهذه العواصف التي تثار هنا وهناك.

فهو لا يختار الرد -مثلاً- من أجل أن يريح نفسه، أو يشبع غروره، أو يظهر الغلبة على خصمه، هذا ليس من شيمة العالم الرباني. يقول الإمام ابن قتيبة ناصحاً طالب العلم في كتابه عيون الأخبار يقول: أحب أن تجري على عادة السلف الصالحين في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنـزهت وثلبوا وتورعت.

يعني لا تحس بإنك أنت كامل وهم ناقصون، وأنت ورع وهم مخلطون، وأنت متنـزه وهم قد اقترفوا بعض المعاصي، لا تحس بهذا، إياك والاستعلاء! إياك والكبر! {بطر الحق وغمط الناس} كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر>>>>>على صفحات الماء وهو رفيع

ولاتك كالدخان يعلو مكانه>>>>>على طبقات الجو وهو وضيع

قبول الحق والتزود من العلم

فمن التواضع أن يعرف الإنسان قدر نفسه، ومن التواضع -أيضاً- أن يقبل الإنسان الحق ويتزود من العلم، ولهذا قال الله تعالى: وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] عالم يدرس: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] وقد سبق أن ذكرت أن الآية فيها قراءتان: الأولى (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ الْكِتَابَ) وهذه قراءة الجمهور.

والقراءة الثانية: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79] يعني تعلمونه غيركم وهذه قراءة حمزة، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، وخلف وهي قراءة سبعية كما هو معروف، وهي المثبتة في المصحف رواية حفص عن عاصم بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ [آل عمران:79].

إذاً تعلمون وأيضاً تدرسون، فأنت تجد الرجل شيخاً في حلقة وتلميذاً في حلقة أخرى، الإمام أحمد كان يركض ونعلاه في يديه -يمكن ما عنده وقت يلبس النعال- في أحد شوارع بغداد فقال له أحد تلامذته: يا أبا عبد الله إلى متى تركض؟! قال: إلى الموت، وفي قصة أخرى قيل له: فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، لا يترك العلم أبداً.

إذاً فهم يتعلمون ويُعلِّمون حتى الموت، ولا يرون أنهم قد وصلوا، لإن الله تعالى يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

وقد سبق أن بينا أن العلم عبادة، بل هو من أعظم العبادات، إذاً من معاني الآية، واطلب العلم -طاعة لله- حتى يأتيك اليقين، لكن العلم النافع الموصل إلى الدار الآخرة.

من صفات الربانيين العمل

من صفات الربانيين بعد الكلام عن أخلاقيات العالم الرباني: من صفاتهم العمل والعمل هو الثمرة، حتى إن السلف رحمهم الله ما كانوا يسمون الفقه إلا العلم والعمل، كما قرر ذلك وحرره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، والإمام ابن القيم وغيرهما من أهل العلم وساق فيه الدارمي وغيره روايات كثيرة عن السلف.

العمل عند السلف والخلف

السلف ما كانوا يعرفون الفقه الذي هو قراءة الكتب، لا،بل يعرفون أن الفقه إنسان يعلم فيعمل، ويطبق، وينفذ، ولا فاصل عندهم بين هذا وذاك، ولهذا سئل أيوب السختياني وهو من التابعين -رحمه الله- سئل أيهما أكثر.. العلم اليوم أو في الماضي؟ فقال: الكلام اليوم أكثر ولكن العلم فيما تقدم أكثر، وهذا الكلام يصلح أن يطبق على واقعنا.

فالكلام اليوم أكثر، شقق الناس الكلام، والقيل والقال وفرعوا وغير ذلك، ولكن العلم الذي وصل إلى القلب، وأثمر العمل والصدق هذا قليل، وقيل للإمام أحمد في مجلس ذكر فيه معروف الكرخي وهو من الزهاد العباد الأتقياء وله في هذا أخبار معروفة ذكرها الذهبي وابن الجوزي وغيرهما، تراجع في مظنتها، لكن المهم ذكر في مجلس الإمام أحمد فقال أحد الحضور: معروف قصير العلم، ما عنده علم، قال له الإمام أحمد: أمسك -عافاك الله- كف عن عرض هذا، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ يقول: ماذا نريد بالعلم إلا النتيجة التي وصل إليها معروف، معروف حصل النتيجة وهي العمل.

وفي حادثة أخرى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل والده وقال له: يا أبت! هل كان معروف معه شيء من العلم؟ قال له: يا بني! معه رأس العلم، خشية الله تعالى.

وفي حديث أبي موسى وهو في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} فهذا العالم العامل المعلم كالأرض الطيبة التي نـزل عليها المطر فـاهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].

فأثمر العلم عنده العمل، والعبادة، والدعوة، والصبر، {وكان منها أجادب -أرض صلبة- أمسكت الماء، فنفع الله تعالى به الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا فهذا مثل إنسان عنده معرفة بالنصوص ولكن لا يعمل؛ مثل الأرض ما استفادت من الماء لكن استفاد الناس منها واغترفوا منها، {وكان منها أو أصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ} فهذا لا عنده معرفة ولا عنده عمل ولا عبادة {فذلك مثل من فقه في دين الله فعمل وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به} وقال بعضهم في وصف بعض الطلاب:

زوامل للأسفار لا علم عندهم>>>>>بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا>>>>>بأسفاره أو راح ما في الغرائر

وقد وصف الله تعالى أهل الكتاب بقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5].

أنواع العمل المحمود

إذاً: اسمع يا أخي كلمةً ينفعك الله بها، هما علمان لا يضرك ما فاتك غيرهما:

العلم الأول: علم ينفعك في الدار الآخرة، ويوصلك للجنة، ويباعدك من النار فهذا تشبث به وتمسك به.

العلم الثاني: علم ينفعك في الدنيا، إما زراعة، وإما صناعة، وإما طب، وإما هندسة، وإما غير ذلك مما تنتفع به أو تنفع به غيرك في الدنيا، أيضاً عليك بهذا العلم بقدر ما تحتاج أنت وبقدر ما يحتاج الناس، وإن أخلصت النية فأنت على خير عظيم وهذا جواب على سؤال.

أما ما سوى هذا وذاك فلا تشتغل به، فلان وعلان هذا طلع وهذا نـزل، وهذا أصاب وهذا أخطأ ماذا ينفعك؟ قد تدخل الجنة وأنت لا تدري بكثير من هذه الأمور، بل قد تبلغ الدرجات العلا منها، وأنت لا تدري بهذه المشاكل، والقيل والقال، والأخذ والعطاء، والغادي والرائح، فأمسك، واترك كثيراً من الفضول التي يتشاغل بها الناس، وقد رأيت أن أكثر الناس يحبون التشاغل بالفضول.

المجريات، الأحداث التي حصلت، المشاكل، القضايا التي لا ينتفعون بها في دين ولا ينتفعون بها في دنيا، لو أنها تنفعهم في دنياهم قلنا: نعم، لكن لا تنفعهم في دنياهم، إنما هي إزجاء للفراغ، ونوع أحياناً مما يسمونه الترف الفكري، كثير من الشباب يأتونني ويسألونني، فأتأمل هذا السؤال الذي سألني عنه هذا الشاب، هل ينفعه؟ فأجده لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة.

إذاً لماذا يسأل عنه؟ اشتغل يا أخي بعلم ينفعك في دينك، عبادة، دعوة، على الأقل علم ينفعك في دنياك: تجارة زراعة، أما هذه الأقاويل والأغاليط، والمسائل، والأمور، تقول: مثل ماذا؟ أقول: لا داعي للتمثيل، انظر أي سؤال تريد أن تطرحه هل هو ينفع في الآخرة؟ إذا كان لا، إذاً اتركه، ينفع في الدنيا، لا، أما إذا كان ينفعك في أُخراك أو في دنياك، فلا أحد يلومك على ذلك.

ولهذا تجد العالم الرباني يعتني بالعلم الذي له ثمرة، فيسأل عن ثمرة هذا العلم قبل أن يتشاغل بهذا العلم، مثلاً: لا يطرح مثل تلك الفرضيات التي ربما لا تقع إلى يوم الساعة، لا يتشاغل بالجدل -مثلاً- في مسائل محفوظة، وقد تكون مذكورة في بعض الكتب، لكن لا يحتاج إليها الآن بحال من الأحوال، مع أننا نجد أن هناك مسائل موجودة الآن لم يسأل عنها، ولم يتشاغل بها، ولم يبحثها.

عدم التشاغل بما لا يفيد من العلم

كذلك تجد أن هذا العالم الرباني -لأن همه العمل بالعلم- تجد أنه يعتني بصلب العلم قبل طرائف العلم وفروعه وملحه وطرائفه البعيدة، التي قد تخفى على بعض كبار أهل العلم، مثلاً مصنفات جديدة، تتبع كل جديد من الكتب، هذا ليس لازماً لأن فيه من إضاعة الوقت الشيء الكثير، وبالمقابل قد لا يكون فيه أكثر من الطرفة والملحة والجمع، وقد يفتن الإنسان بجمع الكتب كما يفتن الآخر بجمع المال، ولا يستفيد منها علماً ولا عملاً، وإن كان الجمع المعتدل مطلوباً، والتخصص -أيضاً- في ذلك مطلوب.

ومثل ذلك الأغلوطات التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وهي صعاب المسائل، فالتشاغل بها مهلكة، وأقول: بعض شباب الدعوة في بلاد إسلامية كثيرة أصغي إلى أسئلتهم أحياناً لساعات فأتعجب، وتأتيني أسئلة في البريد أحياناً، أو يسلمونني أوراقاً قد يكون فيها خمسين، أو ستين، أو سبعين سؤالاً أتعجب من بعض هذه الأسئلة وما فيها من التمحل، والتكلف، والتدقيق، والتنقية، فمعظم هذه المسائل من الأغلوطات التي نهى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.

وتتعجب من هذه العلوم، وهذه الأسئلة لم يقع عليها السلف الصالح، ولا أجابوا عنها، أو ما فهموها، أو لم تتهيأ لهم حتى انبرى لها هؤلاء، فكشفوها وسألوا عنها: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] وقد تجد هذا الإنسان جاهلاً ببعض الأصول الكبار، وغير متعمق في علوم كان يجب أن يتعمق بها وأن يفهمها.

ولهذا يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس يقول: لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في العلم -لو كان العمر متسعاً للوصول إلى منتهى العلوم- غير أن العمر قصير، والعلم كثير، فهذه ضعها في اعتبارك، كم ستقضي في طلب العلم؟ فالتشاغل بغير ما صح يمنع من التشاغل بما هو أهم منه.

ولما تشاغل يحيى بن معين فاته من الفقه الكثير يقول ابن الجوزي: ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ أمضى ستين سنة في طلب الحديث فلا يعرف عنها شيئاً، وأقول: قد يكون ما تشاغل به يحيى بن معين مما ينفع الناس، ولكن غيره كثير تشاغلوا بما لا ينفع من الغرائب، والعجائب، والطرائف التي لا يحتاج إليها والتي تموت بموتهم.

ولهذا قيل في عيوب بعضهم -مثلاً-: أنهم أبحث الناس عن صغير وأتركهم لكبير، يبحث عن الصغائر، لكن قد تجده واقعاً في الكبائر، أعرف شخصاً ينقر في المسائل ويوالي ويعادي، ولكنه عاق لوالديه لا يبرهما، أي خير في هذه؟! وقيل في عيوب بعضهم: أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان، فليس المقصود بالعلم المفاخرة، والمباهاة بالكلام، والتصنيف، والشهرة، والقيل والقال، بل المقصود العمل ديناً ودنيا.

تشاغل الكفار بما ينفعهم دنياً أدى إلى تقدمهم

ويؤسفني أن أقول: أمم الكفر من اليهود والنصارى اليوم في بلاد الغرب تشاغلوا بالأمور الدنيوية، فسخر الله تعالى لهم من هذا الكون المادة، فاستفادوا منها وانتفعوا أيما انتفاع، فغاصوا في أعماق البحار، وصعدوا إلى أجواء الفضاء، وتقدموا في ألوان العلوم، واستطاعوا أن يستفيدوا من ذلك في التسهيلات الحضارية التي انتفعوا بها هم كثيراً، وانتفع بها غيرهم، واستطاعوا أن يحفظوا مكانتهم، ويحققوا لأديانهم وعقائدهم وأفكارهم انتصارات عسكرية بسبب ما ابتكروه واخترعوه.

وذلك لأنهم تركوا التشاغل بغيرهم، وقد أصابوا من جانب وأخطئوا من جانب، أصابوا من جانب الاشتغال بهذه العلوم الدنيوية المفيدة، وكان يجب على المسلمين وما زال يجب أن يشتغلوا بها، ويحققوا أكثر مما حقق هؤلاء، ولكنهم أخطئوا من جانب آخر، وهو أنهم تشاغلوا عن العلوم الأخروية الموصلة إلى رضوان الله تعالى، فصدق عليهم قول الله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].

فهم لا نصيب لهم في الدار الآخرة، إنما نصيبهم في هذه الدنيا، أما الأمم المسلمة فأخشى أن تكون في بعض مظاهرها خسرت هذا وذاك، فهي لم تفلح في إعزاز دينها ولم تفلح في تطوير دنياها مع الأسف الشديد.

إذاً العلم قرينة العمل وهو ثمرته، والعلم والعمل اسمهما الفقه، وفي الصحيحين من حديث معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} وأنت في صلاتك تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] وما الصراط المستقيم إلا العلم والعمل بالهدى ودين الحق، ولهذا قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً [آل عمران:80].

نـزلت هذه الآية في أهل نجران عندما قالوا: يا محمد! -وهم نصارى- هل تريد أن نعبدك؟ والنصارى عبدوا عيسى، وقيل: نـزلت في من يقول: يا رسول الله! ألا نسجد لك كما يسجد النصارى لزعمائهم؟ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} فـاليهود والنصارى ضلوا بترك العلم كما فعل النصارى، أو بترك العمل كما فعل اليهود فأنت تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يعني: صراط العلم والعمل صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] ممن تركوا العمل وهم اليهود وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين تركوا العلم وهم النصارى، فإن حصلت العلم والعمل فأبشر بالخير الكثير.

من صفات الربانيين التعليم

أخيراً من صفات الربانيين التعليم، والتعليم مهمة الأنبياء يعلمون الناس، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، وينبغي أن تعلم أن العلم كالمال لا يكنـز، لابد أن تؤدي زكاته، ويختلف العلم عن المال في أن العلم ليس له نصاب حتى لو لم يكن عندك من العلم إلا آية واحدة أو حديث وجب أن تبلغها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} آية واحدة، وفي الحديث الآخر وكلاهما في الصحيح: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً واحداً فبلغه}.

سبل التعليم

سبل التعليم للربانيين لابد أن يراعى فيها أن يكونوا ربانيين، أي يربون الناس بالعلم، يراعون في ذلك التدرج في العلم فلا ينقلون الإنسان طفرات تجعله غير منضبط في علمه وفي تعليمه.

ثانياً: يراعون التربية فليس العلم هو مجرد حقن الذهن بالمعلومات، فقد تجد إنساناً هو كالبحر في معلوماته لكن شخصيته، لم تصغ صياغة سليمة، لم يكن فيها الانضباط، لم يكن فيها التوازن، لم يكن فيها العمل، لم يكن فيها الأدب، ولم يكن فيها التعقل، ولم يكن فيها الجهاد، فيكون علمه حجة عليه؛ لأنه يغتر بهذا العلم، ويغتر الناس بهذا العلم لأنه إذا تكلم في المسائل أجاد وأفاد، لكن ينسون أن هذا العلم لم يصحبه عقل كبير، ونور وبصيرة، وتربية ومراعاة للأحوال.

ثالثاً: بذل العلم للعامة بسهولة العبارة ووضوحها؛ لأن المقصود ليس التقعر بالقول، وليس إظهار القدرة على الناس، وإنما المقصود تبليغ السامع؛ ولذلك ربنا عز وجل قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] المقصود أن يصل العلم إليه، وليس المقصود شيئاً آخر، ولهذا الإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول: وبهذا كان السلف الصالح يعملون في تبليغ الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أقصر الطرق وأقربها إلى عقول المخاطبين والطالبين من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف؛ بل كانوا يرمون بالكلام على عواهله ولا يبالون كيف وقع الكلام في ترتيبه إذا كان سهل المأخذ قريب الملتمس.

فتراعي إذاً التبسيط والتيسير والتسهيل، وليس بالضروري أن ترتب، على شكل ونقاط، ومسائل، وقيل وقال، المهم أن يصل الحق إلى الناس ولو بأقرب طريق، ولا يمنع أن الإنسان يخص أقواماً بمزيد من العناية والترتيب والتبويب لأنهم مثلاً طلبة علم، أو مختصون أو ما أشبه ذلك، ولذلك يختص الخطيب بضرورة تسهيل العلم للناس، ومثله من يخاطب الجماهير.

قال ابن قتيبة رحمه الله: "ينبغي أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، يتخير اللفظ، ولا يدقق في المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح"، يكون في كلامه إجمال وعموم يتناسب مع عقول المستمعين.

هذا وقد أطلت عليكم فأعتذر إليكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس في ميزان أعمالنا وحسناتنا.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , ولكن كونوا ربانيين للشيخ : سلمان العودة

https://audio.islamweb.net