اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لسنا في زمن أبرهة للشيخ : راغب السرجاني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
عنوان محاضراتنا اليوم: لسنا في زمان أبرهة .
وأبرهة الأشرم قصته معروفة، فقد كان ملك اليمن، وجاء بحده وحديده من اليمن ليهدم الكعبة كما تعرفون، وفي طريقه قبل أن يصل إلى الكعبة استطاع أن يغنم مائتين من الإبل لـعبد المطلب ، ثم بدأ يستعد لدخول مكة، وقد كان عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد مكة في ذلك الوقت، فخرج ليفاوض أبرهة قبل أن يدخل إلى مكة، ولما رأى أبرهة عبد المطلب أجله وأعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جواره، فقد كان على عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة، ثم سأل أبرهة عبد المطلب وقال له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي -وكان أبرهة يتوقع من عبد المطلب أن يسأل عن البيت- فقال أبرهة : قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني -يعني: استقل عبد المطلب جداً، حيث أنه يتحدث في مائتي بعير ويترك بيت الله الحرام- أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! فقال عبد المطلب كلمة يعتقد البعض أنها جميلة وأنها تدل على اليقين، قال: إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه.
وأنا أرى أن الموقف الذي وقفه عبد المطلب من أبرهة موقف فيه سلبيه مقيتة شديدة، أيعيش الإنسان يبحث عن لقمة عيشه وعن حياته وعن أولاده وعن إبله وعن ملذاته ويترك دين الله عز وجل لله يحميه؟! هذا قصور شديد في الفهم وانعدام للرؤية.
ثم بعد هذا الموقف السلبي من أهل مكة وتفرقهم في شعاب الجبال وإخلائهم مكة تماماً لـأبرهة حتى يدخلها بجيوشه وبفيله، نزلت المعجزة الكبرى، الطيور الأبابيل وهي طيور صغيرة ترمي بحجارة من سجيل، أهلكت جيش أبرهة ومن معه.
وكانت سنة الله عز وجل في إهلاك الظالمين السابقين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم بخارقة، وكان المؤمنون لا يرفعون سيفاً ولا يشتبكون في قتال، فلما حدثت هذه الخطورة على بيت الله الحرام طبقت هذه السنة الإلهية حتى في غياب المؤمنين.
وهذا ما كان يحدث أيضاً مع الأنبياء السابقين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنوح عليه السلام -على سبيل المثال- لما كذبه قومه وشعر أنه لا أمل في إيمانهم دعا الله عز وجل عليهم، كما صور الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:11-13]، فلم يحدث لقاء بين المؤمنين وبين الكافرين، وإنما جاء الطوفان وحمل الله عز وجل المؤمنين في السفينة، وكانت النجاة بهذه الخارقة.
ولوط عليه السلام أيضاً لما كذبه قومه قال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169]، فجاءت الأوامر من الله عز وجل: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر:65]. ثم بعد أن خرج لوط عليه السلام من القرية الظالمة قال الله عز وجل: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74].
وحتى بنو إسرائيل الذين حملهم الله عز وجل أمانة إقامة دولة وإنشاء أمة لما أحيط بهم في أرض مصر وانقطع أمل موسى عليه السلام في إيمان فرعون وقومه قال موسى عليه السلام كما قال الله عز وجل في كتابه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، فجاء الأمر الإلهي: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23]، ولم يحدث لقاء بين قوم موسى وبين فرعون، ولم يؤمر قوم موسى بقتال فرعون وجنوده، وإنما أمروا بالخروج من مصر إلى غيرها، فانطلق موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، فلما وصلوا إلى هناك فقد بنو إسرائيل الأمل في النجاة؛ لأنهم رأوا جيوش فرعون من ورائهم، والله عز وجل يصور هذا الموقف في كتابه الكريم فيقول: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فالكلمة الوحيدة المؤمنة التي قيلت في مثل هذا الموقف هي كلمة موسى عليه السلام، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، وأما بقية القوم فإنهم اضطربوا اضطراباً شديداً لما رأوا جيش فرعون، ومع ذلك قال الله عز وجل: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:63-65]، ولم يكن هناك ضحايا ولا شهداء، وكل بني إسرائيل نجوا مع كونهم قالوا: (إنا لمدركون)، ثم قال عز وجل: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الشعراء:66]، فشق البحر وأهلك فرعون عليه لعنة الله ومن معه من الجنود.
وكانت حادثة الفيل هي آخر الحوادث التي نصر فيها الدين بخارقة، وما زالت سنة إهلاك الظالمين باقية: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13]، وهذا الكلام لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13] مطلق، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]، فأي أمة تخاف مقام الله عز وجل وتخاف وعيده عز وجل فلا بد أن تمكن في النهاية، ولا بد أن يهلك الظالمون لها، فهي سنة ماضية إلى يوم القيامة.
ولكن مع بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرت طريقة الإهلاك، فقد كان الظالمون في السابق يهلكهم الله بخوارق، وأما في رسالة الإسلام فالسنة هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
فلا بد أن يقدم المسلمون العمل والعمل الخالص لله عز وجل الصحيح على منهاج النبوة، فإذا قدموا العمل الصالح أنزل الله عز وجل ما يشبه الطير الأبابيل، فينزل بركة ورحمة وأمناً وتأييداً وتوفيقاً على المؤمنين، وسخطاً ونقمة وعذاباً وهلاكاً على الكافرين، ولكن بغير عمل لن تنزل الطير الأبابيل، وبغير جهد وبذل وعطاء لن ترمى حجارة من سجيل. هذه السنة الجديدة الخاصة بأمة الإسلام، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة لا تبديل لها ولا تحويل، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وكثير من الناس أحبطوا من رؤية الظالمين يتمكنون من رقاب المؤمنين، وجلسوا ينتظرون نزول الطير الأبابيل، ويراقبون الموقف من بعد، ومستحيل أن تنزل الطير الأبابيل على الكافرين فتهلكهم، فانتظارهم هذا وهم وغياب فهم وعدم فقه لسنة الله عز وجل في التغيير، بل لابد أن يعتمد المسلمون على أنفسهم وعلى سواعدهم وعلى شرعهم ومنهجهم وعلى ربهم، والاعتماد على الله عز وجل لا يكون إلا كما يريد هو سبحانه وتعالى، لا كما نريد نحن بأهوائنا.
والله عز وجل وضع لنا سنناً واضحة في التغيير قد تختلف حسب المرحلة التي يعيشها المسلمون، فقد يكتفي المسلمون في زمن بالدعوة، وقد تكون الدعوة سراً أو جهراً، وقد يحتاج المسلمون إلى معاهدة، وقد يحتاجون إلى جهاد، وقد يجاهدون قوماً ويتركون آخرين، وقد يجاهدون الكفار أجمعين، فبحسب المرحلة تتغير الطريقة، ولكن في كل الأحوال لا بد أن يقدم المسلمون شيئاً، فلن ينزل النصر على قوم كسالى قاعدين أو سلبيين.
وأنا لا يعجبني الدعاء الذي يدعو به بعض الناس بقولهم: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين. وأنت أين هو دورك؟! أتكتفي بالمراقبة ثم تنتظر أن تسوقك الأحداث سوقاً إلى سيادة وتمكين وعز وصدارة؟! هذا وهم -إخواني في الله!- وليس من سنن الله عز وجل، إنما السنة إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وتذكروا أننا لسنا في زمان أبرهة ، فلن تنزل الطير الأبابيل الآن على الظالمين إذا فر من أمامهم الصالحون إلى رءوس الجبال. فنحن الآن نشاهد الصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج الأمريكية تعربد في كل بلاد المسلمين، والمسلمون ينظرون بحسرة لمن جاء يدمر بلادهم وأوطانهم، ويقتل أبناءهم وشيوخهم ونساءهم، وهم يقولون: عسى الله أن يرسل عليهم طيراً أبابيل، أو يرميهم بحجارة من سجيل، أو يحدث معجزة أو يأتي بخارقة تدمرهم، فإلى هؤلاء الذين يعتقدون مثل هذا الاعتقاد وينتظرون الصواعق أن تنزل على قاصفات أمريكا، وينتظرون خسفاً بجنود الأمريكان في الكويت والسعودية والعراق وقطر وعمان وتركيا وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وغيرها من بلاد المسلمين، وينتظرون الطوفان ليغرق أساطيل الأمريكان في الخليج العربي وفي البحر الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وكل ألوان الدنيا، إلى هؤلاء جميعاً أوجه نداء من قلبي إليهم وأقول: سيطول انتظاركم ولن تنزل الطير الأبابيل أو أشباهها إلا بعمل سنة واضحة، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
نحن لسنا أعز على الله عز وجل من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مضت معه هذه السنة في كل حياته.
فقد واجه في بدر مثلاً أبشع أجيال الكافرين يتزعمهم فرعون هذه الأمة لمقاتلة خير أجيال الأرض يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تنزل الطير الأبابيل على جيش الكافرين لتمنع الموقعة بينهم، بل على العكس كل الملابسات كانت تدفع دفعاً إلى القتال على غير رغبة الطرفين، قال الله عز وجل: وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42]. ويقول في موضع آخر: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:44]، فلا بد من اللقاء، ولن تنزل الطير الأبابيل قبل اللقاء، مع أن جيش المؤمنين أكرم على الله عز وجل من أهل مكة حين غزاها أبرهة عليه لعنة الله، ولكنها السنة الجديدة تقول: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فلا بد من اختيار المكان، ولا بد من الشورى الحقيقية وتنظيم الصفوف والتأليف بين القلوب، وحمل السيوف، ولا بد من خطة محكمة ودعاء في كل وقت، وثبات راسخ وجراح وآلام ودماء وشهداء، وعند ذلك ستنزل الطير الأبابيل في صورة ملائكة أو مطر أو رعب في قلوب الكافرين، أو في صورة فرقة وتشتت في صفوف أعداء الدين، أو في أي صورة يختارها الله رب العالمين، لكن المهم أنه لا بد من عمل وحركة وإيجابية.
وفي الأحزاب مثلاً كان جيش الكافرين عشرة الآلاف يحاصرون خير الأنبياء والأصحاب ويهددون الإسلام بالاستئصال، وكان الحق الكامل في داخل المدينة، والباطل الكامل حولها، ومع ذلك لم تنزل الطير الأبابيل على جيش الكافرين، ولم يحدث لهم خسف ولا صاعقة ولا صيحة ولا طوفان، فالسنة واضحة، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فلا بد من اليقين بالنصر والوحدة بين المؤمنين والخطة المناسبة وحفر الخندق والصبر على الجوع وعقد الأحلاف وفك الرباط بين صفوف المشركين واليهود وحسن المبارزة وقوة المخابرات، كل ذلك جنباً إلى جنب مع العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة، وعندما يحدث كل ذلك ينزل نصر الله عز وجل على عباده الثابتين، وتنزل الطير الأبابيل أو أشباهها في صورة ريح وفرقة بين المشركين واليهود ورعب، المهم أنه لا بد من عمل دءوب صالح مخلص لله عز وجل.
وفي أحد هزم المسلمون الأكرمون من الكافرين الملحدين لما خالف المسلمون المنهج، وخاطب الله عز وجل رسوله والمؤمنين فقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، أي: أنه عجب المؤمنون لماذا هزمهم الكافرون؟ قال الله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165]، أي: قبل ذلك انتصرتم في بدر، ثم بعد أن هزمتم تقولون أنى هذا؟ قال الله عز وجل: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].
والمسلمون لم يخالفوا في أحد فقط مخالفة تكتيكية بترك الرماة للجبل، وإنما خالفوا مخالفة قلبية خطيرة، قال الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152]، ولم تنزل الطير الأبابيل على المسلمين لتنقذهم من أخطائهم، فالسنة المستقرة هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وتذكروا أننا لسنا في زمان أبرهة ، وإنما نحن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان سنة الله التي وضعها لأمة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إننا نتساءل اليوم ما العمل مع هذا الوضع التي تعيشه أمة الإسلام في هذه الأيام؟ وما العمل مع المأساة التي تمر بها العراق والمصائب التي تعاني منها فلسطين والكوارث التي تتوالى على الشيشان والظلم الذي يقع على المسلمين في كشمير وفي البوسنة وفي كوسوفو وفي الفلبين وفي بورما وفي أفغانستان وفي السودان وفي ليبيا وفي غيرها من بلاد المسلمين؟
إن المشكلة ليست مشكلة دولة أو مجتمع أو فرد، وإنما هي مشكلة أمة كاملة، أمة عاشت سنوات تقود غيرها فإذا بها اليوم تقاد، أمة رفعت رأسها قروناً فإذا هي اليوم تطأطئ رأسها للشرق وللغرب، أمة ظلت دهراً تعلم الناس الخير وتضرب لهم الأمثال في الأخلاق، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الله عز وجل، فإذا بها بعد أن عرفت طريق الهدى وعرفت به تتبع هذا وذاك، وهذه مشكلة خطيرة.
إخواني في الله! أنا لست مع أنصاف الحلول وتمييع القضايا والعلاج المؤقت، ولا أريد تفريغاً للشحنات ولا مهبطات للحرارة دون علاج للأسباب الحقيقية للمرض، ولا أريد شعارات جوفاء ولا أصواتاً عالية ولا تشنجات مفتعلة، ولا إلصاق أخطائنا ومشاكلنا وهمومنا بحاكم أو بعالم أو بداعية أو بجماعة أو بصديق أو بعدو، وإنما أريد فقهاً عميقاً لأسباب المرض وعلاجاً شرعياً له.
والمشكلة في اعتقادي فكرية في المقام الأول، وهي سوء فهم خطير لكثير من الأصول الثوابت في الإسلام، سوء فهم وقد انتشر سوء الفهم هذا في أبناء الأمة من أقصاها إلى أقصاها إلا من رحم الله عز وجل. والحل هو في العودة إلى فهم الإسلام من مصادره الأصيلة.
ففي قضية العراق مثلاً تعددت الأطروحات لعلاج هذه القضية، فواحد يقول مثلاً: على صدام حسين أن يتنحى، وآخر يقول: على الدول العربية أن تسير في الطرق السلمية مهما تفاقم الأمر، وعلى الأمم المتحدة أن تتحرك، وعلى الأمريكان أن ينهوا المشكلة بسرعة، وعلى العراق أن يدمر كل أسلحته، وعلى المسلمين أن يستنفروا الصين وألمانيا وفرنسا وروسيا للوقوف أمام أمريكا، وثالث يقول: نريد درعاً بشرياً في العراق.
إخواني في الله! هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيضع هذه الأطروحات لو كان يتابع معنا الموقف في العراق؟! فنحن نريد توحيد المفاهيم على أساس شرع الله عز وجل، ونريد حركة بهذه المفاهيم وسط أبنائنا وأحفادنا وجيراننا ومجتمعاتنا، ونريد عملاً بكل مفهوم علمنا أنه في دين الله عز وجل.
وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها، وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، حاكماً كان أو محكوماً، عربياً كان أو عجمياً، قريباً كان أو بعيداً، يعيش في بلد محتل أو حر.
المفهوم الأول: لسنا في زمان أبرهة ، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ونصر الله يكون بتطبيق شرعه. وقد يقول قائل: إن هذا ليس في يدينا، وتطبيق الشرع مسئولية الحاكم.
وأقول: تطبيق الشرع يكون على ثلاثة مستويات:
أولاً: على المستوى الفردي، ففعل الطاعات واجتناب المحرمات هو تطبيق للشرع، والصلاة والصيام والزكاة والحج تطبيق للشرع، وعدم التعامل بالربا تطبيق للشرع، والحجاب وبر الوالدين ورعاية الجار وحفظ حقوق الطريق تطبيق للشرع. فهناك أمور كثيرة جداً من أمور الشرع يقع تطبيقها على الفرد لا على الحاكم.
ثانياً: على المستوى الجماعي، يقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). فأنت تستطيع أن تطبق الشرع في بيتك، ومع تلامذتك إن كنت مدرساً، ومع موظفيك في العمل إن كنت رئيساً، ومع زبائنك إن كنت تاجراً. فهناك أمور كثيرة في المجتمع نستطيع أن نطبق فيها الشرع دون حاكم، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الفساد والرشوة والوساطة بقدر ما نستطيع.
ثم يأتي بعد ذلك المستوى الثالث، وهو المستوى الذي يتطلب حاكماً لتطبيق الشرع مثل: إقامة الحدود، وتسيير الجيوش للجهاد، ورفع الضرائب ....، ومنع الخمور، وإغلاق الملاهي وأماكن الرقص والفجور، ووقف المولاة مع أعداء الأمة، والاكتفاء بمولاة المؤمنين، فهناك أمور كثيرة لا بد أن يطبقها الحاكم، فإذا كان المسلمون لا يطبقون الشرع على أنفسهم في الإطار الذي يستطيعونه فكيف يتوقعون أن ينزل الله عز وجل عليهم نصره، هذا عكس السنة التي لا تبديل لها ولا تحويل، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
المفهوم الثاني: إن أمة الإسلام أمة لا تموت ولن تموت إن شاء الله رب العالمين، ولو أصيب المسلمون بالإحباط فلا أمل في القيام، بل لا بد أن يتيقن المسلمون أن الدورة الأخيرة ستكون دائماً لأمة الإسلام، وأن هذه الأمة لا تموت، وهي باقية ما بقيت الأرض، وأن الله عز وجل قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وليس هناك رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فلا بد أن تبقى الأمة التي تحمل الرسالة الأخيرة من الله عز وجل إلى خلقه، وإلا فمن يقيم حجة الله عز وجل على خلقه؟ ومن يأخذ بأيدي الناس إلى خالقهم؟ ومن يعلمهم الهدف من حياتهم؟ ومن يبصرهم كيف يعبدون ربهم؟ ومن يهديهم إلى عمارة الأرض وإقامة الشرع ورفع المظالم ورد الحقوق وإرساء العدل ونشر الرحمة؟ فمن يفعل كل هذا إن فنيت أمة الإسلام؟
فبقاء أمة الإسلام أمر حتمي تواترت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، ولا بد أن يفقه المسلمون ذلك، ولكن -إخواني في الله- احذروا شيئاً خطيراً، ألا وهو قاعدة الاستبدال، فالله عز وجل من سنته أن يهلك القرى الظالمة غير المسلمة إهلاكاً تاماً، ولكنه مع أمة الإسلام يطبق قانوناً خاصاً وهو قانون الاستبدال، فيهلك الجيل الفاسد من المسلمين، وينشئ جيلاً صالحاً مكانه، فيستبدل بالجيل الذي ألف القعود جيلاً اشتاق إلى الجهاد والحركة والبذل والعطاء، هذه سنة إلهية ماضية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39].
ويقول الله عز وجل في سورة محمد: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]. فاحذروا -إخواني في الله!- من قاعدة الاستبدال.
المفهوم الثالث: إن الأمم الظالمة المعادية للمسلمين أمم هالكة لا محالة، وهذه سنة إلهية أيضاً، قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26]. فأمة الأمريكان أمة هالكة لا محالة، فقد جمعت كل أسباب الهلكة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، وكلما أهلك الله عز وجل أمة ذكر لنا أسباب هلاكها، وقد تجمعت هذه الأسباب جميعاً في أمريكا الآن، فقد اتصفت بالكبر والظلم والترف والذنوب والبطر والعنصرية، وهي صفات لا تقوم مع وجودها الأمم، وهو مفهوم لا بد أن يفقهه كل المسلمين.
والأصل الإسلامي الثابت الذي يجب أن نعيه هو: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
المفهوم الرابع -وهو في غاية الأهمية-: الفشل قرين التنازع، والنصر لا ينزل على المتفرقين، قال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92].
وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105].
وهناك آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل تحض على الوحدة والألفة والترابط والأخوة بين المسلمين، وهذا ليس على مستوى البلاد الإسلامية فقط، بل على مستوى الشعوب والأفراد، فإذا كان المسلمون مثلاً في عمارة أو في مبنى لم يستطيعوا أن يتحدوا لإصلاح شئونهم، فكيف يرجى توحيد بلاد المسلمين؟! وإذا كان المسلمون لا يشعرون بروح الفريق الواحد في العمل وفي الشارع وفي النادي، بل وأحياناً في المسجد يتصارع الملتزمون من المسلمين على إمامة مسجد، فكيف لو كان التصارع على إمامة أمة؟!
إذا كان هذا هو الواقع فكيف تتجمع أمة الإسلام؟! وكيف سينزل النصر من عند الله رب العالمين؟!
أيها المؤمنون! عباد الله! عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
أيها المؤمنون! عباد الله! من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة.
أيها المؤمنون! عباد الله! (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث).
أيها المؤمنون! عباد الله! (إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) ، (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)، (إياكم والبغضة -أي: سوء ذات البين- فإنها الحالقة) ، (إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).
أيها المؤمنون! عباد الله! (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله)، (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).
المفهوم الخامس: ما حك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك.
لا بد أن يفهم المسلمون أن النصر لا يستورد من خارج البلاد، بل هو بضاعة محلية، فلا يصلح أن يكتب عليها صنع في الصين أو في فرنسا أو في أمريكا، ولكن لا بد أن يكتب عليها بوضوح صنع في بلاد المسلمين وفي أمة الإسلام.
شكراً لفرنسا لوقفتها بجوار إخواننا من المسلمين في العراق، ولكن اعلموا جيداً أن فرنسا ما فعلت ذلك من أجل سواد عيون أهل العراق؛ وإنما للحفاظ على الوجود الفرنسي في مواجهة الغول الأمريكي المفترس، ولا تنسوا ما فعلته فرنسا في الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان وقبل ذلك في مصر، وأنها كانت لها اليد العظمى وما زالت في الفتنة الدائرة في بلاد الجزائر الآن، وأنها من المشعلين لفتنة الحرب بين العرب والبربر في الجزائر، ولا تنسوا أنها منعت فتاتين مسلمتين من لبس الحجاب في المدارس الفرنسة، ولكن كل يبحث عن مصالحه، ونحن قد نستفيد من التحالف والتعاون معها، ولكن لا ننتظر نصراً مستورداً فرنسياً خالصاً.
وشكراً أيضاً لروسيا على وقفتها الشجاعة مع أهل العراق، ولكن لا تنسوا إخوانكم في الشيشان، ولا ما حدث منذ سنوات في أفغانستان، وراقبوا باهتمام ما سيحدث عما قريب في داغستان المسلمة.
وشكراً كذلك للأمم المتحدة، ولكن لا تنسوا ما فعلته الأمم المتحدة في فلسطين، ولا قرار التقسيم الظالم الذي قسم فلسطين إلى قسمين: عربي وإسرائيلي في سنة 1947م، ولا تنسوا التخاذل والتهاون والغش والخداع، لا الكيل بمكيالين، والعفو عن الظالمين وعقاب المظلومين.
كما لا يصح -إخواني في الله!- أن نستعطف البابا لإنقاذ أهل العراق، والمسلمون من أهل العراق يمثلون 96% من السكان، ولا يقبل عقلاً ولا شرعاً أن ينصر البابا النصراني العراق المسلمة على أمريكا النصرانية.
المفهوم السادس: (كما تكونوا يولى عليكم) فلا تنشغلوا كثيراً بالحديث عن الحكام، وإلقاء التبعة على أكتافهم وتنسون أنفسكم، نعم كلما عظمت المسئولية زادت التبعات، والمخطئ في حق فرد ليس كالمخطئ في حق عشرة، ولا كالمخطئ في حق أمة، ولكن اذكروا الحقيقة الصادقة: (كما تكونوا يولى عليكم).
والحكام إفراز طبيعي جداً للشعوب، فليس من سنة الله عز وجل أن يولي حاكماً فاسداً على قوم مصلحين، أو يولي حاكماً مصلحاً على قوم فاسدين، والله عز وجل قال في كتابه الكريم وهو يصف فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، ولم يقل: إنه كان من الفاسقين، فالعلاقة بين الشعب والحاكم تفاعلية جداً، فأصلحوا أنفسكم يخرج من بينكم خالد والمثنى وطارق وقطز وصلاح الدين .
المفهوم السابع: المخطط الأمريكي في بلاد المسلمين مخطط مسبق وليس بسبب شخص معين، فليس بسبب صدام حسين أو الملا عمر ، وليس بسبب أسلحة دمار شامل أو غيرها، احتلال أمريكا للعراق مخطط قديم ومسبق، وكذلك احتلالها لأفغانستان والقوقاز مخطط قديم أيضاً ومسبق.
وكل ما في الأمر هو اتخاذ بعض الذرائع لتجميل صورتها وإرضاء الحلفاء وإسكات الشعوب، وقد يحدث أحياناً أن تجد ظروف تقدم خطة وتؤخر أخرى، ولكن كل المخططات قد أعدت سابقاً، وإعادة تنظيم وترتيب العالم الإسلامي وفق هوى أمريكي معين أمر لا يخفى على أحد، ومن ثم لن يجدي تقديم التنازلات المهينة، ولن يجدي النداء الذي وجهه رئيس جريدة قومية مشهورة حيث يقول في ندائه: أما آن لـصدام أن يتنحى؟ يعني: لو أن صداماً رحل لصلحت الدنيا كلها، هكذا يظن، ولن يجدي إرسال الرسل لأمريكا لاستعطافها أن تكف أيديها عن الدماء المسلمة، أو على الأقل كما يقول بعضهم: أن تنهي مهمتها بسرعة. فاستعطاف أمريكا كالذي يستعطف ذئباً أن يرعى أغنامه تماماً بتمام.
المفهوم الثامن: أمة الإسلام تملك الكثير، فلا يعتقدن أحد أن أمة الإسلام عاجزة، وليس من المقبول شرعاً أو عقلاً أن تقف دولة فقيرة معدمة مثل كوريا الشمالية هذه الوقفة أمام أمريكا ولا تستطيع أمة الإسلام أن تقفها، فكوريا الشمالية عدد سكانها ثلاثون مليون مواطن شيوعي ملحد، وأمة الإسلام مليار وثلث مليار، ومساحة كوريا الشمالية مائة وعشرون ألف كيلو متر مربع فقط -عشر مساحة مصر، أي: مثل محافظات فقط من مصر- و6.4 مليون مواطن في كوريا الشمالية مهددون بالموت جوعاً، فهم فقراء فقراً معدماً، ويعيشون على الطحالب والأعشاب، أما أمة الإسلام فتمتلك إمكانيات اقتصادية وبشرية وعقلية وجغرافية وإستراتيجية هائلة، وفوق ذلك إمكانيات عقائدية ليست لغيرها من الأمم، والله مولانا ولا مولى لهم، فكيف يستطيع الكوريون أن يصنعوا سلاحاً ولا نستطيع نحن؟! وكيف لا يقبل الكوريون خفض رءوسهم وتقبل أمة المليار أن تخفض رأسها؟!
فالمسألة -إخواني في الله!- مسألة روح وإرادة وعزيمة
والذي في يدينا من أجل أن نغير.
أولاً: رأي عام محلي وعالمي، فتحرك أخي في الله بهذه المفاهيم، واكتب بها خطابات للصحف، ورسائل على الإنترنت، وعلى الجوال، وأقم لها الندوات الثقافية، وتحدث بها مع الأهل والأصدقاء والجيران، حتى المظاهرات السلمية بالضوابط الشرعية، واشرح وجهة نظر الإسلام في كل هذه المتغيرات، وعلم من تستطيع، واخلق جواً عاماً من الاعتزاز بهذا الدين والأمل بقيامه والرغبة في الجهاد والشوق إلى الشهادة، وسيؤتي كل هذا إن شاء الله ثماراً عظيمة وحمية في قلوب المسلمين، ورعباً في قلوب أعداء الدين.
ثانياً: المقاطعة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي، وقد أصبح واضحاً أن الشراء منهم إثم وذنب وخطيئة، فلم يعد من المقبول أبداً تحت أي مبرر أن نتعامل بالبيع والشراء مع الذين يسفكون دماء إخواننا وأمهاتنا وأطفالنا وشيوخنا، فالفتور في المقاطعة يعني: غياب الفهم وانعدم الرؤية، والمقاطعة للأعداء ليست بدعة في وسائل المقاومة، وإلى الذين فتروا عن المقاطعة أهدي لهم بحث الحكومة الأمريكية لمقاطعة الصادرات الألمانية لأمريكا والتي تجاوزت ستين بليون دولار، وبحث مقاطعة الطيران الفرنسي والجبن الفرنسي؛ ذلك لأن ألمانيا وفرنسا تعارضان السياسية الأمريكية فقط ولا تحاربانها.
عضو في الكونجرس طلب تغيير اسم الفرنش برايز البطاطس الفرنسية إلى اسم الفري برايز البطاطس الحر، مع أن هذا مجرد اسم البطاطس لا تصنع في فرنسا، ولكن العضو رفض كل ما يحمل اسماً فرنسياً حتى لو كان الفرنش برايز ، فأين المسلمون؟
ثالثاً: الإيجابية في الانتخابات، فلا بد أن تذهب وتنتخب الأصلح مهما خرجت النتائج على غير الرغبة الحقيقية للشعوب، ولكن هذا واجب وطريق لا بد أن يسلك مع غيره من الطرق.
رابعاً: تربية الأطفال والشباب على هذه المعاني، وبث روح الجهاد والتضحية والبذل في نفوس الشعب، وضرب الأمثلة العظيمة واستعراض التاريخ المجيد، وهذا الدور ملقى على عاتق كل أب ومدرس وداعية وصاحب قلم مسلم غيور على الدين.
خامساً: الإصلاح ومحاربة الفساد، والارتفاع بمستوى الأخلاق، وإشاعة جو من التعامل النظيف، حتى يكون في تعامله نظيف اليد واللسان والقلب، وكل في مكانه وعلى حسب طاقاته.
سادساً: تحسين الإنتاج وتوجيهه إلى الأصلح والأنفع، ومراقبة الله عز وجل في كل عمل وصناعة وزراعة ومنتج.
سابعاً: الدعاء المستمر الملح، فهو سلاح فعال تماماً، ولا تنسوا قولة أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: الدعاء يرفعه العمل.
فالله عز وجل لا يستجيب لدعاء من لا يعمل ولا يقوم ولا يتحرك لنصرة الإسلام والمسلمين، ولا لمن فتر وأحبط ويئس.
وهذه الأشياء في يد الأمة الإسلامية، وهناك أشياء أخرى كثيرة، فلا يعتقدن أحد أبداً أن أمة الإسلام عاجزة.
المفهوم التاسع: أقتالهم وحدي حتى تنفرد سالفتي ويقطع عنقي، وهذه كلمة قالها الصديق رضي الله عنه وأرضاه عند الردة، يعبر فيها عن القيام بدوره حتى لو قعد الآخرون، فالمسئولية فردية، فنحن أمرنا أن نعمل مجتمعين ولكننا سنحاسب فرادى، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، فلو قعد كل المسلمين فما المبرر لأن تقعد أنت؟ ولو تكاسل كل الخلق فما الداعي لأن تتكاسل أنت؟ ولو دخل كل أهل الأرض النار أيكون هذا مبرراً لأن تدخلها معهم؟! والله لا يؤاخذ أحداً بجريمة أحد، وأنت لا تعمل لفلان أو لعلان، ولا لرئيس أو ملك، ولا لشهرة أو سمعة، ولا لمال أو سلطان، وإنما تعمل لله رب العالمين، وهو عز وجل حي لا يموت، فهو الأول الذي ليس قبله أحد، والآخر الذي ليس بعده أحد، وهو المطلع عليك والمحاسب لك، وسيجازيك عن الحسنة بعشر أمثالها، وسيعاقبك على السيئة بمثلها، والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فلماذا الركود والفتور والكسل؟ فاعمل بكل طاقتك، وتذكر: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي.
المفهوم العاشر والأخير: إياك والتسويف، ولا أقول لك: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، ولكن أقول لك: لا تؤجل عمل اللحظة الحالية إلى اللحظة القادمة. فإن لكل أمة أجل، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أردت دعاءً فمن الآن، وإذا أردت مقاطعة فمن الآن، وإذا أردت صلاة وصياماً وزكاة فمن الآن، وإذا أردت صلحاً مع أخيك وصلة لرحمك وبراً لوالديك فمن الآن، وإذا أردت دعوة إلى الله وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فمن الآن، وإذا أردت وقفاً لفساد أو رشوة أو وساطة فمن الآن، وإياك والتسويف، والشيطان لا يأمر المؤمنين بالامتناع عن الأعمال الصالحة ولكن يأمرهم بتأجيلها، فإذا أجلوها تركوها في أغلب الأحوال، فلا تسلمن نفسك للشيطان، ولا تكن متبعاً لهواك.
تلك عشرة كاملة، لو فهمناها وفهمناها وتحركنا بها لقامت لنا أمة، ولرفعت لنا راية، ولكتب لنا نصر وسيادة وتمكين.
وختاماً: ليست هذه أول الأزمات التي مرت بأمتنا الإسلامية، ليست هذه أول الجروح والآلام، والخطوات، فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية، وظهر من يدعي أنه نبي يوحى إليه، وأنه رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93].
فظهر مسيلمة الكذاب وارتد معه عشرات الآلاف ومع ذلك لم تنزل طير أبابيل، ولم ترم حجارة من سجيل، بل ظل الوضع كما هو عليه إلى أن بعث الله عز وجل رجالاً يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، فجاء خالد بن الوليد وأصحابه؛ ليطهروا الأرض من مسيلمة وأصحابه، أما قبل قدوم المجاهدين فلا طير أبابيل.
وذبح الصليبيون في بيت المقدس سبعين ألفاً من المسلمين في يوم واحد، ولم تنزل الطير الأبابيل، ولم ترم حجارة من سجيل، وظل الوضع كما هو عليه إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي ومن معه من المجاهدين؛ ليطهروا الأرض من الصليبيين.
واستباح التتار بغداد وقتلوا من أهلها ألف ألف -مليون مسلم- في أربعين يوماً، ولم تنزل الطير الأبابيل على التتار المشركين الظالمين الكافرين، وظل الوضع كما هو عليه إلى أن بعث الله قطز ومن معه من أبطال المسلمين، فكانت معركة عين جالوت، وكان النصر والتمكين.
بل أشد من ذلك جهز القرامطة -وهم طائفة من أخبث طوائف الشيعة، كفرها كثير من علماء المسلمين- جيشاً لغزو مكة المكرمة، ودخلوا الحرم المكي والبيت الحرام في اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية في سنة 617هـ، واستباحوا مكة وأهلها، وسفكوا دماء كل من كان بالحرم من الحاجين، حتى من تعلق بأستار الكعبة، وتناثرت الأشلاء في الكعبة المشرفة، وسالت الدماء على أطهر بقعة في الأرض، وكان زعيمهم عليه لعنة الله: أبو طاهر سليمان الجنابي -وما هو بطاهر- يقف على باب الحرم يقول:
أنا لله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وهذا كفر بواح، بل وأرسل رجلاً من أتباعه فنزع الحجر الأسود من مكانه وأتي به إليه، فرفعه إلى السماء وقال في كفر صريح:
أين الطير الأبابيل أين الحجارة من سجيل
ولم تنزل الطير الأبابيل، ولم ترم حجارة من سجيل، وانتزع الحجر الأسود من مكانه لمدة اثنتين وعشرين سنة كاملة، ولم يعد إلا في سنة 339 هـ، وظل المسلمون يحجون إلى بيت الله الحرام اثنتين وعشرين سنة بدون حجر أسود؛ لأن السنة الإلهية المستقرة لهذه الأمة: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فنحن لسنا في زمان أبرهة ، بل نحن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبغير شرعه صلى الله عليه وسلم لا نصر ولا فوز ولا نجاة، فدين الله واضح لا غموض فيه، فهو قواعد شرعية معلومة وسنن إلهية ثابتة، إن سار عليها المسلمون فازوا في دنياهم وأخراهم، وإن أبوا فلا يلومن إلا أنفسهم، وصدق الله عز وجل إذ يقول: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لسنا في زمن أبرهة للشيخ : راغب السرجاني
https://audio.islamweb.net