إسلام ويب

كل إنسان في هذه الحياة تطرأ عليه تساؤلات تتعلق بحياته من حيث: نشأته، ومصيره، وتساؤلات تتعلق بالكون والخلائق من حوله. وهذه التساؤلات وإن كانت تفيد الإنسان في إدراكه بأن لكل هذه المنظومة خالقاً ومصرفاً، إلا أن هذا الإدراك لا يمثل حقيقة الإيمان التي يجب أن يصل إليها الإنسان ليسعد في أولاه وأخراه.

حقيقة الإيمان .. علم لابد له من معلم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

ما هذه الحياة؟ وما حقيقتها؟ ومن أين أتى إليها هذا الإنسان؟ ولماذا جاء إليها؟ وإلى أين سينتقل بعد أن يؤدي دوره على مسرحها؟ أسئلة تتردد في ذهن كل إنسان، أسئلة محيرة، وقد عجزت كل الفلسفات والمذاهب في القديم والحديث عن الإجابة على هذه التساؤلات؛ لأن الذكاء والعبقرية والعقل لوحده لا يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة؛ لأن العلم بالشيء لا بد أن يكون من معلم، فلو جئت -مثلاً- بشابٍ يعيش في أغوار تهامة أو في الصحراء، ودرجة الذكاء عنده متوقدة، أي: ذكي جداً لدرجة العبقرية، ولكنه لم يدرس في المدارس وأعطيته مسألة رياضية أو فك أقواس وقلت له: فك لي هذه الأقواس. وهو لم يدرس شيئاً حتى الحروف الأبجدية، فهل يستطيع ذلك بذكائه وعبقريته وفطرته فقط أو لا بد من أستاذ الرياضيات ليعلمه؟

كذلك لو جئت إلى أستاذ (الإنجليزي) الذي يقرأ اللغة (الإنجليزية) والذي ننظر إليه بإعجاب وهو كالبلبل يترنم بها، لو جئناه برسالة باللغة (الأردية) -لغة الباكستانيين- وقلنا: يا أستاذ (الإنجليزي) اقرأ هذه الرسالة.

قال: لا أدري. ثم قلنا له: تعرف (الإنجليزي) وما تعرف هذه؟!

قال: نعم. اللغة (الإنجليزية) أعرفها؛ لأني درست حروفها وأبجدياتها وكلماتها وتركيباتها وقواعدها وكل ما فيها عرفته، لكن هذه لغة تختلف عن هذه اللغة فلا أعرف منها حرفاً واحداً.

لكن أنت ذكي؟!

- أنا ذكي في مجال تخصصي، لكن شيئاً لم أدرسه لا أعرفه.

وكذلك قس على هذا في كل العلوم، لا يمكن بالعقل لوحده أو بالذكاء أن تدرك علماً من العلوم إلا بالمعلم، أليست هذه قاعدة؟

وسائل إدراك الغيبيات

علم الآخرة، ولماذا جئنا، وما الهدف من مجيئنا، وأين سنكون بعد أن نموت، هل يمكن أن نتعلم ذلك من رءوسنا بدون معلم؟ لا يمكن، وإذا قمنا ووضعنا علوماً من رءوسنا حول هذه المواضيع تكون علومنا غير سليمة مثل البَدَوِي الذي تعطيه مسألة رياضية وتقول له: حلها لي، يحلها خطأً؛ لأنه لا يعرف يفك الأقواس، ولا المعادلة (س تربيع مع س ص)، فإذا قلت له: والله إما أن تحل المسألة هذه وإلا أذبحك، ماذا يصنع؟ يحلها خطأ، وإذا حلَّها خطأً تصبح النتائج خطأ، وتستمر سلسلة الأخطاء؛ لأنه ليس عنده معلم، وما تعلم ممن يملك العلم في هذا المجال، والبشرية لما أرادت أن تدخل نفسها في علوم لا تعرفها، ولا عندها أهلية العلم بها وقعت في الخطأ، فعندما تسأل نفسها: لماذا جئنا؟ لا تدري بالجواب؛ لأنه ليس هناك معلم يعلمها (لماذا جاء) فما اهتدوا إلى شيء إلا أن قالوا: جئنا لنعيش.

إذاً: تعيشون لماذا؟ قال: نعيش لنأكل. وتأكل لماذا؟ قال: آكل لكي أعيش. وأعيش لآكل، وفي حلقة مغلقة ودائرة مستديرة، يأكل ليعيش ويعيش ليأكل.

وبعد ذلك والنهاية؟! قال: والنهاية الموت.

إذاً: أنت كنت من قبل ميتاً في العدم أفتخلق من أجل أن تموت؟! لو كان الغرض أن الله خلقك من أجل أن تموت، فقد كنت ميتاً ولم يكن هناك داع لأن تأتي، فلا داعي لأن تحمل بك أمك تسعة أشهر وتضعك كرهاً وتحملك وتربيك، ثم أنت تعاني ثم تتعب ثم تدرس، ثم تعيش ستين أو سبعين سنة، وبعد ذلك تموت، تعيش كل هذه المراحل الصعبة ثم تموت، لا، خطأ، لماذا الجواب خطأ؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا جاءوا؟ مثل ما قيل: أين تكونون بعد هذه الحياة؟ قالوا: لا يوجد شيء بعد هذه الحياة، عدم. من قال لكم لا توجد؟ قالوا: عقولنا. عقولكم أخطأت؛ لأنكم لا تستطيعون حل المسألة الرياضية مثل ما قلنا، ولا قراءة الرسالة (بالأردية) لأنكم ما تعلمتم من معلم، ولهذا حاولتم أن تحلوا المسائل بعقولكم من غير معلم، ووقعتم في الخطأ.

وقلتم أيضاً: ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، ومن قال لكم: إنه لا يوجد شيء بعد هذه الحياة؟ من الذي مات من الناس منذ خلق آدم إلى يومنا هذا وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، ثم بعث ورجع وقال للناس: لا تتعبوا أنفسكم فلا يوجد هناك شيء؟ هل هناك أحد وقع منه هذا الأمر؟ لا أحد، كل من يموت لا يرجع، ولا يعطينا حقائق عما حصل له في القبر من النعيم، أو العذاب، نحن لا ندري، فهل عدم علمنا يؤهلنا إلى أن نقول: لا يوجد شيء، هل أرى أبها الآن وأنا جالس عندكم؟ لا أراها، هل من حقي أن أقول: إنَّ أبها ليست موجودة؟

هل أنا فككت الذرة؟ لم أفكّ الذرة ولا أعرف عنها شيئاً، ولكن درسناها أنها (نيترون) مع (بروتون) وما أدري ما هو، وأنها تتفتت، إذاً هل قمتم بذلك أنتم أو أنا؟ ومدرس العلوم هل فتت الذرة؟ بل ما رآها بعينه، لكنه مؤمن بها ونحن كلنا مؤمنون بها، حسناً هل منكم من زار أمريكا؟ يمكن لا يوجد منا أحد زارها لكننا مؤمنون بها، فمعنى عدم رؤية الإنسان للشيء لا يؤهله ذلك إلى أن يقول: إن هذا الشيء ليس موجوداً.

قصة الجاذبية معروفة، إسحاق نيوتن كان جالساً تحت شجرة يستظل بظلها، فسقطت حبة تفاح من الشجرة فنزلت إلى الأرض، فهو فكر، لأن عنده عقلاً كبيراً، قال: لماذا الحبة عندما انقطعت ما صعدت إلى فوق؟ أو لماذا ما ذهبت شرقاً أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً؟ أو لماذا ما بقيت في مكانها عندما انفكت من غصنها؟ لماذا نزلت؟ عقله سأله، قال: ثقلها. حسناً، لماذا لم يؤهلها ثقلها لتصعد إلى الأعلى؟ هناك شيء سحبها إلى الأسفل، وبعد تفكير وجد أنها الجاذبية، والجاذبية هذه خاصية من خواص الحياة، فكل شيء على وجه الأرض مربوط بحبال الجذب إليها، هل رأيتم الجاذبية؟ الآن لما انفك (الميكرفون) من يد المدير وسقط على الأرض، من الذي أسقطه؟ الجاذبية، حتى أنتم ضحكتم على تلك السقطة: هل أنتم رأيتم حبال الجذب لما جذبته؟

مثال آخر: القارورة هذه لو أني أفكها الآن أين تسير؟ تسقط، من الذي سحبها إلى تحت؟ الجاذبية، أين حبال الجاذبية، هل ترون شيئاً؟ إذاً: الجاذبية موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة.

لو أن شخصاً قال: لا توجد جاذبية .. ماذا نقول له؟ نقول: هذا أحمق. يا أخي! عينك لا ترى كل شيء، الجاذبية موجودة لكن عينك لا تراها.

الموجات الصوتية الآن عندما نأتي المذياع ونشغله يعطينا إذاعة القرآن وإذاعة جدة وإذاعة لندن، وكل الإذاعات نسمعها، أغلق المذياع فلن تجد شيئاً، أين كانت كل هذه الأصوات التي أظهرها لنا هذا الجهاز؟ كانت موجودة في الهواء، لكن هل أراها أنا؟ هل أرى الموجة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من جدة، وأرى الموجة ثلاثمائة وخمسة عشر من الرياض، وأرى الموجة الآتية من أمريكا ولندن ومن كل مكان؟ لا أرى شيئاً، لكن من الذي يلتقطها؟ المذياع، إذا فتحنا المذياع هربت الموجات، إذا فتحنا المذياع التقطها، هل عدم رؤيتي للموجات يدعوني للتكذيب بهذه الموجات؟ وإذا كذبت وقلت: والله لا توجد موجة في هذه الصالة .. لماذا؟ لأني لم أرها. يقول لي: أنت ما رأيت الموجات لكن المس أثر الموجات بالجهاز.

فليس كل شيء لا تدركه ولا تراه بعينك غير موجود، ولو عملنا بهذه القاعدة في حياتنا لما تعلمنا العلوم، الآن كلكم تدرسون ويأتي أستاذ الجغرافيا بخريطة العالم، ويضع الخريطة هكذا كوسيلة إيضاح، ويأتي بالمؤشر ويقول: هذا البحر الأبيض وهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، وهذه أمريكا، وهذه كندا بجانبها، وهذه أمريكا الجنوبية، لو قام أحد الطلاب وقال: لا تلعب علينا أرجوك، ولا تضيع أدمغتنا، أين أمريكا؟ لا يوجد هنا إلا ورقة مصبوغة، والله لا وجود لـأمريكا ولا روسيا ولا يوجد نهر ولا بحر ولا شيء، وكذَّب بهذا الموضوع، ما رأيكم هل تنتشر العلوم؟ وهل يمكن أن تقوم حضارة للأمم؟

نقول لهذا: يا مغفل! لا نستطيع أن نذهب بك لتنظر إلى العالم كله، ونركبك طيارة لتنظر إلى كل دولة بعينك، فليس كل شيء يجب أن تراه العين، وإلا أيضاً بالمنطق هذا نفسه لو سألتكم وقلت لكم: أنا عاقل. تقولون لي أنتم: ما تعقل به؟ أقول: أعقل بعقلي، وهذا العقل هنا في المخ. وتقولون أنتم لي: لا ليست بعاقل. لماذا؟ أنا عاقل أتصرف وأتكلم تصرف العقلاء وكلام العقلاء، تقولون: أين عقلك؟ خذ فأساً واضرب به رأسك وأرنا إياه حتى ننظر، وإلا لحكمنا عليك بالجنون لأنا ما رأينا عقلك.

أجل، العين ليست وسيلة الإدراك، وإنما هناك وسائل مسعفة لتدرك بها الأشياء ولتطل منها على عالم الأشياء، وهي ما يسمى بالحواس الخمس، العطر مثلاً إذا أردت أن تعرف نوعيته: عودي أو وردي أو أي نوعية، تضعه عند عينك أو عند أنفك؟ تضعه عند أنفك، لكن لو وضعته عند عينك، هل تشم عينك رائحة العطر؟ لا. وكذلك إذا أردت أن تعرف طعم التفاحة أين تضعها عند أنفك أو في فمك؟ في فمك؛ لأن لسانك عنده قدرة على معرفة عالم الأطعمة، والأنف عنده قدرة على الإطلال على عالم الروائح، والعين عندها قدرة الإطلال على عالم الأشكال والألوان، اليد عندها قدرة وإدراك للإطلال على عالم الأجسام تحس، وما ليس بجسم تلمسه ولا لون تراه، ولا رائحة تشمه، ولا طعم تذوقه، ما تدركه بالحواس الخمس، فماذا تفعل؟ ترفضه؟ لا، قبل التخيل هناك وسيلة اسمها وسيلة الأثر.

قاعدة: الأثر يدل على المؤثر

فالأثر يدل على المؤثر، البدوي الأعرابي الذكي يقول: سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ تزخر، ونجومٌ تزحف -هذه كلها عوالم تلفت النظر، ويقول- الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك على السميع البصير؟!!

فأنت بالأثر تستطيع أن تصل إلى الإيمان بحقيقة المؤثر، ولذا هذه الغرفة الآن مليئة بهواء (الأكسجين) ولو أخرجت ورقة من جيبي الآن أمامكم فأنفخها هكذا فتتحرك، لكنكم لا ترون شيئاً خرج من فمي، مدفع حركها، أو عصا خرجت من فمي وقالت لها هكذا، شيء تحرك، هل رأيتم شيئاً خرج من فمي؟ خرج هواء، هناك تيار هوائي لكن لا ترونه بالعين، كيف رأيتموه؟ رأيتموه بأثر حركته على الورقة، نأخذ من هذا قاعدة: أن كل شيء لا ندركه بأعيننا لا ينبغي لنا أن نكذِّب بوجوده، وإذا قلنا: إنه غير موجود فقد ألغينا عقولنا.

الآن يوجد جبل ظمك، وفي زاوية من زوايا هذا الجبل وتحت صخرة من الصخرات هناك مجموعة من النمل، أو لا يمكن هذا؟ لكن لما قلت لكم ذلك: قام واحد من الإخوة الآن وجاء وفتح الستار وتلفت، هل نظرت جبل ظمك ؟ قال: نعم. قلت: سوف ترى ذرة تحت حجر هناك. قال: كذاب. لا يوجد، أين الذرة؟ أين النملة هذه؟ يا أخي! أنت لا تراها من هنا، إن كنت تريد أن تراها فاركب سيارة واطلع الجبل وانظرها. قال: أريد أن أراها من هنا. نقول: لعينك البصرية مجال وقدوة الرؤية عندها محدودة؛ لأن الله خلق الإنسان وأعطى لكل عضو وجارحة قدرة معينة، فمثلاً: بطنك له قدرة في الأكل، إذا وردت على الطعام فإنك تأكل حتى تشبع، لكن إذا شبعت والطعام جيد وبقيت أصناف من الطعام ما قد عممت عليها ونفسك تقول لك: لا تفوتك، لكن بطنك امتلأت، ماذا تفعل؟ غصباً، تضغط على بطنك، وإذا فعلت ذلك وضغطت على بطنك غصباً، يحصل عندك عسر هضم، وتقعد مريضاً شهراً وأنت تدور على المستشفيات تشتكي من بطنك، لماذا؟ لأنك أنت الذي خربت بطنك؛ لأن لبطنك قدرة معينة على الأكل، عندما أطعمتها فوق طاقتها لم تقدر.

كذلك عضلة رجلك لها قدرة على أن تقف وقتاً معيناً، لكن إذا أوقفتها أربعين ساعة سقطت، كذلك أعضاؤك، سمعك هذا له قدرة على السماع من مسافة، لكن عندما تمر وهناك شخص يصيح على مسافة 2 أو 3كيلو فينقطع صوته فإن أذنك لا تسمع؛ لأن مجال قدرة أذنك على السماع محدودة، عينك كذلك محدودة.

كل جارحة فيك لا تستطيع أن تلم بكل شيء، وإذا لم تر بعينك هذا الشيء؛ لضعف في إمكانات عينك وقدراتك أنت، فلا يعني هذا أن هذا الشيء غير موجود.

ولذا فالذي يقول: إنه ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، نقول له: ما أدراك أنه ليس هناك شيء؟ قال: لأني لم أنظر إلى شيء، نقول له: حسناً، والذي لا تنظر إليه ما تؤمن به. قال: أجل. قلت: كذاب، عقليتك فاسدة، وهناك شيء يسألنا بنفس السؤال يقول: لماذا جئنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ هذه الثلاثة الأسئلة المحيرة لا يمكن أن تجيب عليها البشرية من عند أنفسها، لا بد أن تكون الإجابة من قوة خارجة عن الإنسانية، والبشرية هي التي جاءت بالإنسان، وهي التي تتوفى الإنسان، وهي التي تقلب الإنسان إلى عالم آخر.

الإنسان أمام التسيير والتخيير المكتوب عليه

الآن الناس يموتون بغير اختيار، ولو أن الموت بالاختيار هل هناك أحد يموت؟ كل شخص لا يريد أن يموت، حسناً.. حينما يُخلقون يخلقون باختيار أم بغير اختيار؟ من الذي جيء إليه وهو في بطن أمه وقالوا له: ما رأيك تريد أن تخلق أم لا؟ إن الإنسان يخلق رغم أنفه وبغير اختياره، كذلك التحديد في النوعيات ذكر أو أنثى ليس باختياره.

بعد ذلك اللون .. الطول .. العرض .. الذكاء .. المواهب .. الزمن .. العمر... كل هذه بغير اختيار، أنت أتيت ولم يؤخذ رأيك في كل قضاياك، وبعد ذلك تعيش فترة الحياة وأنت باختيار، لكن تموت بغير اختيار.

وهنا يبدو جواب على الناس الذين يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟

نقول: هو مسير ومخير. كيف؟ مثل الراكب الآن في الطائرة؛ عندما تركب من هنا إلى الرياض أو من هنا إلى جدة، أنت في عموم الرحلة مسير، هل تستطيع أن تنزل في الطائف؟ أو عندما تنظر إلى وادٍ وأنت فوق الطائرة تقول له: قف قف لأجل أن نقيل في هذا المكان، أو: متعب نريد أن نجلس هنا، لا، رحلة مصممة من أبها إلى جدة، لا تذهب إلا من هذا الخط فقط ولا يمكن أن تمر إلى غيرها، فأنت مسير، ولكن يمكنك أن ترقد على كرسيك، ويمكنك أن تقرأ جريدة أو قرآناً، وتقدر أن تأكل، أو لا تأكل، فأنت مخير في حدود كرسيك، لكن مع العموم مسير مع الناس كلهم، وكذلك أنت أيها الإنسان! مسير يوم خلقت، ومسير يوم تموت، ومخير بين الحياة والموت؟!! بإمكانك أن تهتدي، ومن يمنعك من الهداية؟ وبإمكانك أن تضل، ومن يمنعك من الضلال؟

إذا أذن المؤذن وأنت جالس في البيت فهل هناك قوة -إذا أردت أن تقوم وتصلي- تستطيع أن تأتي وتضغط على أرجلك وتشد عضلاتك وتضع (قف) على إمكاناتك ولا تقوم لتصلي؟ لا شيء يمنعك، لكن أنت لا تريد أن تقوم.

وآخر يريد أن يقوم ليصلي، هل هناك من جاء وسحبه بأنفه وقال: قم فصلِّ؟ لا. ذهب إلى الصلاة باختياره، وذاك ترك الصلاة باختياره.

وآخران قُدِمَ لهما شرابان حليب وخمر، فأحدهما قال: أنا أشرب الحليب فقط، لماذا؟ باختياره، والثاني قال: أريد الخمر، لماذا؟ باختياره، هل هذا أجبر على الحليب، وهذا أجبر على الخمر؟ لا، بالاختيار، فأنت بين الموت والحياة .. بين البقاء وبين الإجلاء .. بين الوجود والعدم في فترة اختيار، ولذا كانت هذه الفترة فترة اختيار وفترة تكليف وتبعة ومسئولية؛ لأنه لو لم يكن لديك الاختيار لم يكن عليك مسئولية، والله منزه عن الظلم، كيف يخلقك ويعطيك الاختيار ولا يجازيك؟ أو كيف يخلقك ولا يعطيك القدرة على الاختيار ويجازيك؟ أمعقول هذا؟! ولذا ترون أن المجنون الذي سلب العقل مرفوع عنه القلم؛ لأن التكليف منوط بالعقل، فإذا لم يعط إنساناً عقلاً فهل يعرف كيف يتصرف؟ هل يعرف متى يدخل الوقت فيقوم ويصلي؟ هل يعرف حلالاً وحراماً، هل يعرف واجباً وفرضاً؟ لا يعرف شيئاً فهو مجنون، فالله لعدله رفع عنه التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة -يعني: المسئولية والعهدة- المجنون حتى يعقل، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ)، فلما لم يكن هناك عقل فليس هناك تكليف، لكن إذا وجد العقل ووجد الاختيار والقدرة على سلك سبيل الخير أو سلك سبيل الشر ثبت الاختيار، وثبتت معه العهدة والمسئولية؛ لأنك تعصي الله باختيارك فتحل النتيجة باختيارك، وتطيع الله باختيارك فتجد ثمرة اختيارك.

ولا يقل أحد الناس: لا، أنا مكتوب عليَّ أن أعصي، ولهذا لا أستطيع إلا أن أعصي، لماذا تزني؟ كان مكتوباً. حسناً .. تعال إلى هذا الإنسان الذي يقول: مكتوب واضربه على وجهه بكفك، وإذا قال: لماذا ضربتني على وجهي؟ فقل له: مكتوب، والله كتب في الأجل أني سأضربك على وجهك، هل يرضى بالكتاب عليه بالصفعة هذه؟ ما رأيكم يرضى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، جزاك الله خيراً، والله إنك صادق وأنه مكتوب علي.

ويومه الثاني يرضى؟ لا، أبداً لا يرضى.

حسناً.. هذا الرجل إذا استلم الراتب ووضعه في جيبه فقفزت وأخذت راتبه كله، وبعد ذلك يمسكونك ويقولون: ماذا بك؟ فتقول: الله كتب عليَّ أن أسرقه! هل هذا عذر يقبله الناس ويقبله هذا الذي أخذت عليه ماله؟ لا يقبل القضاء والقدر في ما يتعلق به، لكن في ما يتعلق بربه يقبله، يزني ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويسرق ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويشرب الخمر ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك.. سبحان الله!

معنى الكتابة في الأزل

ما معنى الكتابة في الأزل؟

هذا سؤال مهم جداً أرجو أن تنتبهوا إلى الإجابة عليه؛ لأن سوء الفهم للحديث الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي بالإنسان إلى الهلاك والضلال.

إن الله كتب حينما وُلِدَ الإنسان في بطن أمه، ومرت أربعة أشهر -مائة وعشرون يوماً- وبدأ الشهر الخامس ينزل الملك ويبدأ يحدد النوع ويكتب أجله ورزقه وشقي أم سعيد، ما معناه؟

معنى الكتابة أولاً: يقول العلماء: إنها سابقة لا سائقة، الكتابة سابقة عند الله ولكنها ليست سائقة، أي: أنها ليست ملزمة ومجبرة للإنسان .. كيف؟

الآن إذا أراد إنسان أن يبني عمارة ما الذي يلزمه في أول مراحل البناء؟ أن يعمل مخططاً، ثم يذهب إلى المكتب الهندسي ويقول: أنا عندي أرض مساحتها عشرون متراً في عشرين متراً، على شارع عام، أريد أن أعمل فيها عمارة، ويعطيه كل التصورات التي يريدها؛ الدور الأول محلات تجارية، والبدروم مستودعات، والدور الثاني شقق سكنية، والدور الثالث أريده سكن لي أنا وعائلتي، المبنى يتكون من ثلاثة أدوار: المجلس أريده أن يكون عشرة في خمسة، (والمبلط) بجانبه سبعة في ثلاثة؛ لأني كريم وصاحب ولائم وعندي أقارب ومناسبات كثيرة، وأيضاً أريد غرفة للنوم والحمام بداخلها، يعطيه كل هذه المواصفات ويقوم المهندس فيترجم هذه المعلومات كلها في مخطط كامل، وبعد ذلك يعرضه عليه ويجري عليه تعديلات سهلة على الورق، فإذا استقر الرأي قال: يا (مهندس) نفذ! فتقوم العمارة سليمة.

لكن ما رأيكم في صاحب العمارة لو جاء وأتى باليمنيين من السوق والمقاولين وبدون مخطط وقال: ابدءوا في بناء العمارة. قالوا: كيف نفعل العمارة؟ قال: ابدءوا على كيفكم افعلوا العمارة المهم (البلك والإسمنت) والحديد موجود، حسناً وأين نجعل المجلس؟ اجعلوه هنا على اليمين، على أساس الناس إذا دخلوا على اليمين. (والمقلة؟) قال: ضعوه بجانبه. كيف نعمله؟ قال: قدروا وانظروا. وبعد العصر جاء واحد وقال: لماذا وضعتم المجلس على اليمين؟ هذا خطأ الشمس لا تدخل هنا، اجعل المجلس في الشمال، فدعا العمال: وضع المجلس هنا خطأ، انقلوا المجلس هنا، بعد قليل .. المهم ما رأيكم في عمارة هذا الإنسان؟ هل هي سليمة أو تنهدم رأساً؟ وبعد ذلك الأساس كم هو؟ قال: ضعوا القواعد هنا متر في متر، أي: الأرض صلبة، جاء واحد قال: لا، ثلاثة أدوار يا شيخ! ولعل الله أن يمد في عمرك ويضع لك أولادك أيضاً دورين أو ثلاثة .. لا، ضع القاعدة مترين في مترين، فدعاهم وقال: انقضوه، خذوا (الصبة) هذه واجعلوها مترين في مترين، جاء شخص بعد ذلك قال: يا شيخ أنت مخطئ كيف تضع مترين في مترين؟ أنت على شارع عام يا شيخ، والدنيا تتطور كل يوم، هل تريد أن تهد عمارتك بعد ذلك؟ اجعلها ثلاثة في ثلاثة يا شيخ، لا تبخل على نفسك، وإلا ندمت بعد ذلك.

بالله ما رأيك في هذا المسكين؟ هل عمارته هذه سليمة، أم أنها خطأ في خطأ؟ لماذا؟ لأنه مرتجل، ودائماً الارتجال نتيجته الفشل باستمرار.

أليس المدرسون عندكم في المدرسة يضعون خطة للدراسة في أول العام، ويقسمون المنهج على أشهر السنة، بحيث يطالب كل مدرس الشهر الأول بأن ينجز من وإلى، وفي الشهر الثاني من وإلى، هذا في العرف؟ لكن يمكن في الشهر الأول يزيد قبل الحل، ويمكن في الشهر الثاني لظروف معينة يمد عليه المنهج لصعوبة بعض بالمواد، لكنه في هذا الإطار، لكن لو جاء في أول السنة وقام المدير وقسم المنهج على أشهر السنة قال: لا داعي للتقسيم هل تريدني أن أمر على الطلاب مرور الكرام؟ أم تريدني أن آخذ المنهج والطلاب لا يفهمونه؟ ماذا يفعل المدير لهذا المدرس؟ يقول المدير له: أنت مدرس فوضوي، ولا تصلح لعملية التعليم؛ لأنك لم تنظم المادة ولا قسمت المنهج، الآن كيف أسير الطلاب هؤلاء؟ أنجحهم إلى سنة ثانية وهم لم يدرسوا المنهج، أو أسقطهم سنة وأعطل مستقبلهم؟ إذاً: أنت الفاشل وسوف أبعدك من هنا.

فالتخطيط مطلوب لكل عمل، وإذا كان هناك ارتجال فكيف يصير العمل؟ خطأ في خطأ، وقفنا عند هذه الناحية، ولله المثل الأعلى.

الله تبارك وتعالى حينما أراد أن يخلق الكون والحياة لم يرتجل وإنما عمل -نحن نسميه في عرفنا مخططاً- القضاء والقدر، أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب في اللوح المحفوظ. قال له: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة -عمل المخطط- كل ما هو كائن مكتوب في اللوح والمخطط عند الله، والتنفيذ في الميدان.

ومعنى الكتابة: سبق العلم، وهو أن الله عز وجل علم في الأزل أنَّ زيداً وعمراً من الناس، وهذين الشخصين سوف يوجدان ويخلقان ويبلغان سن التكليف، ويعلمان بأوامر الشرع، وتكون لديهما القدرة على اختيار سبيل الخير أو الشر، ولكن زيداً من الناس رجل عاقل استقام واستجاب لأوامر الله وقام على الدين حتى مات، فعلم الله أنه نتيجة استقامة زيد على دينه أن يكون سعيداً، فكتبه سعيداً وهو في بطن أمه، وأن عمراً هذا سيبلغ سن التكليف وسوف يكون رجلاً، وسوف تبلغه الشريعة، ولكنه لن يستجيب لأمر الله ولا لداعي الله، وإنما سيستجيب لداعي الشيطان والهوى والشهوات والمعاصي؛ فكتبه الله شقياً.

أفنريد على الله ألا يعلم ماذا سيكون غداً؟ إذا كنا أنا وأنتم لا نعلم ماذا سيصير غداً .. أليس كذلك؟ أنريد ألا يعلم الله ماذا سيصير غداً أيضاً؟!! إذا كان الله لا يعلم ماذا سيصير غداً فهو مثلنا، فعلم الله مثل علمنا، لكن ما دام أن الله عز وجل عليم فوجب أن يكون علم الله أقدر وأنفذ من علمنا، فهو يعلم ماذا سيكون غداً.

موقف الإنسان من علم الله الأزلي

إن علم الله الأزلي ليس معناه أنه ملزم لنا، وأضرب لكم على هذا مثالاً من واقع المدرسين:

لو أتينا إلى أحد المدرسين وليكن في التوجيه، وجاء المدير فدخل عليه في الفصل وقال: يا أستاذ كم تتوقع نسبة النجاح عندك في الفصل في نهاية السنة؟ فالمدرس شغَّل عينه كذا في الطلاب، وراجع دفتر المكتب، ورأى العلامات والذين يتجاوبون معه في الدراسة والمجتهدين، والذين يحلون الواجبات وينتبهون للشرح، والذي عنده تفاعل مع الدرس، فذهب إلى المدير وقدم له بياناً، فقال له: الفصل فيه (20) طالباً، (18) طالباً أتوقع نجاحهم، أما (2) فأشك في نجاحهما؛ لأنهما مهملان؛ أولاً: كثيرو الغياب، ثانياً: أنهما ينامان بكثرة في الفصل، من حين أن يدخل يضع يده على الماسة ونام نومة إلى أن يأتي الأستاذ فيوقظه: ولد.. أين أنت؟ قم. قال: سهران البارحة. سهران في ماذا؟ أفي الجهاد؟ لا سهران على المسلسل والورقة و(البلوت) والقهوة، ويأتي في الصباح نائماً، صارت المدرسة للنوم، يأتي ليحصل التعليم فيحصل النوم.

حسناً.. هل أديت الواجب؟ قال: نسيت الدفتر. حسناً والمسألة؟ قال: الامتحان بعيد يا أستاذ، لا تشدد علينا، الله يبارك فيك، يسروا ولا تعسروا. ويستشهد بالأحاديث.

فجاء الأستاذ إلى المدير وقال: أما فلان وفلان فإنهم ساقطان، إلا إن غيرا من وضعهما. فالمدير وضع الورقة عنده في الماسة، وبعد ذلك مرت السنة، وفي آخر السنة طلعت النتائج وجاء الأستاذ الذكي الذي يعرف طلابه معرفة دقيقة وقد تحققت نبوءته في الطلاب وظهرت النتيجة: نجح (18) طالباً، والطالبان ساقطان.

وبعد ذلك سألوهم الطلاب: لماذا سقطتم؟ قالا: بسبب الأستاذ فهو في أول السنة كتب ورقة للمدير وقال: نحن سنسقط.

بالله ما رأيكم في هذا العذر أهو مقبول؟! يعتمدون على ذكاء الأستاذ، هؤلاء الطلاب قالوا: إن الأستاذ في أول السنة لما سأله المدير من الذي سينجح، ومن الذي سيسقط؟ فقال: هناك طالبان سيسقطان، فنحن توقعنا أننا نحن، ولهذا لا تلومونا نرجوكم، أليس الأستاذ قد قال ذلك تلك الأيام، وقد كتب علينا في أول السنة. هل عذرهم مقبول يا إخوان؟!!

وهكذا الذي يزني ويسرق ويعصي، ولا يصوم ولا يصلي، ويعق ويرتكب المعاصي، تقول له: يا أخي! لماذا؟ قال: يمكن أن الله كتب عليَّ هذا. مثل ذاك الذي يقول: يمكن أن الأستاذ قد سجلني مع الذين سيسقطون. وأنا يمكن أن الله قد كتبني في الأزل أني شقي، ولهذا يمكن يا أخي أن تذبح نفسك على مذبحة (يمكن)؟ فهذه (يمكن) للاحتمالات.

الآن لو أن شخصاً دعوته وقلت له: العشاء الليلة عندنا، فقال لك: يمكن آتيك، تقبل منه، (يمكن) هذه أو تقول له: بلا يمكن، هل ستأتي؟ قل لي من أجل أن أجهز العشاء، أو لا تأتي لكي أستريح، لكن قال لك: والله لا آتي، إذاً قل: إنك لن تأتي. لكن لو قال لك: يمكن أن آتي. وذهبت إلى البيت، وبعد ذلك جاءتك الأفكار يمكن أن يأتي، وبعد ذلك ذهبت وأخذت الذبيحة وتريد أن تذبحها من أجل الضيف، وحين أوشكت على أن تذبح الذبيحة جاءك شعور ثانٍ يمكن ما يأتي، وما ذنب التيس الضعيف؟ دعه يعيش، ولماذا أخسر تيساً وأكلف المرأة وأتعبها بطبخ الذبيحة ويمكن أن لا يأتي، والله لا أضحي بالتيس على (يمكن) هذه. سبحان الله! التيس غالٍ عندك لا تضحي به على (يمكن)، وتضحي برقبتك على (يمكن)؟ وتجازف بحياتك ومصيرك من أجل (يمكن)؟

وبعد ذلك ذهبت إلى الله وقدمت عليه وهلكت هلاكاً ليس بعده هلاك، فالله يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] كل ما خطر في بالك فالنار بخلاف ذلك، فالنار اسمها نار، نحن نعرف النار والله ما توعدنا بشيء لا نعرفه، بل توعدنا بشيء وأعطانا منه نموذجاً حياً، قال: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:71-73] ما معنى تذكرة؟ أي: موعظة تذكركم بالنار الكبيرة، أم هذه وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73] أي: لكي تطبخوا عليها الطعام، وتستدفئوا بها في البرد، لكن الهدف منها حقيقة تذكرة، لكن الذي يرى أعمالنا يقول: هؤلاء لا يعرفون النار أو ضد النار، فإما أننا لا نعرف النار -وكلنا نعرف النار- وإما أنا ضد النار، ولسنا ضد النار، والذي ضد النار لا يأخذ له جمرة من الجمرات بل يأخذ له عود كبريت يولعه ويصبر عليه، فإذا وصلت النار إلى العود مما يلي إصبعه وأحرقته فلا يفكها، دعها تؤلمه قليلاً، يصبر ويتصبر ويتصبر، يرى إلى أي مدى يتحمل النار، والله ما يتحمل النار، لكن يهلك نفسه بالذنوب والمعاصي وترك الطاعات والواجبات ويكون مصيره الدخول في نار الآخرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، ولولا أنها أطفئت في الماء مرتين ما استمتعتم بها) هي جذوة أصلها من النار ثم أطفئت حتى خمدت، ثم بقي فيها نار تحرق فأطفأها الله حتى خمدت، ثم بقيتها النار هذه التي عندنا! ولذا ورد في بعض الآثار: [لو خرج أهل النار من النار ووجدوا نار الدنيا مشتعلة لقالوا فيها قِيلة، ولعاينوا فيها نوماً] نار الدنيا يعاينوا فيها نوماً، لماذا؟ لأن نار الآخرة يقول الله فيها: لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً [النبأ:24] يقول: البرد هنا هو النوم، فلا يوجد نوم، كيف تنام وأنت في عذاب؟

أيضاً أهل الجنة لا يذوقون النوم، لماذا؟

لأن النوم يفوت عليهم النعيم، كيف ينام وهو في نعيم، فالنوم جعل في الدنيا لغرض: من أجل إعادة نشاط الجسم، فالإنسان إذا تعب ينام قليلاً فيقوم وهو نشيط، لكن في الآخرة لا يوجد تجديد ولا تعب، كلها نعيم في نعيم، فإذا نام فاته جزء من النعيم؛ فاته الحور والقصور، والحبور والسرور، فهل ينام؟ لا، لا نوم فيها، لكنَّ الذي في النار لماذا ينام؟ إذا نام استراح من العذاب، ولهذا المريض الذي أصبح متعباً ونام قليلاً قال: والله إني وجدت قليلاً من الراحة، رقدت، وتخلصت من ألم، ولكن هذا إذا رقد فاته العذاب، فلا يرقد ولا ينام ليزداد عذابه، ولا ينام هذا في الجنة ليزداد نعيمه.

من حكم الله في الإنسان

لقد علمنا الله تبارك وتعالى لماذا جئنا، وعلمنا من أين جئنا، وعلمنا أين سنذهب بعد أن نفارق هذه الحياة.

أما: لماذا جئنا؟ فإنه لا بد لكل شيء من حكمة في خلقه، أنا أحمل هذا الجهاز الآن في يدي لحكمة، ما هي حكمته؟ تكبير الصوت، لكن لو انقطع التيار (الكهربائي) هل سأظل أمسكه؟ لا. لأنه لم يعد هناك تيار (كهربائي) يكبر الصوت ولهذا سأضعه، لكن لو واصلت أتكلم ولا يوجد تكبير، ماذا تقولون لي أنتم؟ تقولون: اترك الجهاز فإن (الكهرباء) مقطوعة؛ لأن الغرض من الجهاز تكبير الصوت؛ فما دام أنه ليس هناك تكبير للصوت فضعه.

وأنت تحمل القلم في جيبك لحكمة ماهي؟ الكتابة، فإذا انتهى الحبر الذي في القلم فماذا تصنع بالقلم؟ تتركه معلقاً في جيبك أم ترميه؟ ترميه، أو كلما انتهى عليك مداد قمت بتعليق القلب في جيبك إلى أن تصبح عشرة أقلام؟ وإذا جاء إليك أحد الناس وقال لك: من فضلك القلم. قلت: والله هذا ليس فيه حبر. حسناً أعطني الثاني. وتقول: وهذا والله ليس فيه حبر أيضاً منذ زمن. حسناً والثالث؟ قال: كلها ليس فيها حبر، ماذا يقول لك هذا؟ يقول: يا مجنون! ظللت تصفُّ أقلاماً في جيبك وليس فيها حبر، إذاً لماذا تحملها؟ ما دام أنه ليس لها حكمة وليس لها أي غرض إذاً هذا خبل، أنت تضع شيئاً بلا غرض.

وهكذا كل شيء، وهذا اسمه منطق العقلاء أن كل شيء له حكمة فإذاً هو مفيد، وما ليس له حكمة فإنه غير مفيد.

الحكمة من خلق العين والأذن

عينك في رأسك لها حكمة وحكمتها الرؤية، ولذا فالعين مفيدة، ولذا هناك كليات للطب، وهناك أقسام متخصصة في طب العيون، لماذا؟ لحكمة هي علاج عينك، فإذا مرضت عينك أو تعطلت عالجوها، لكن أن تأتي عندهم في كلية الطب وتقول لهم: لا، أنتم مخطئون، كلية الطب هذه خطأ، أموال تذهب هدراً، لا داعي لها، يقولون لك: لا. هذه كلية الطب مهمة وضرورية وليست بالعبث؛ لأن هناك أعيناً تخدمها هذه الكلية.

حسناً، الأذن كذلك لها حكمة، حكمتها: سماع الصوت، ومن حكمة الله يا إخواني! -الذي هو حكيم في كل شيء، من صفاته أنه العزيز الحكيم- لا يضع شيئاً إلا في موضعه تبارك وتعالى.

فمن حكمة الله في خلق الإنسان أنه جعل كل عضو وجارحة في مكانها المناسب، ولو تغير هذا الوضع لاختل الإنسان ونظامه.

فالعين الآن هي بمنزلة سرايا استطلاع بالنسبة للجيوش، ودائماً سرية الاستطلاع تكون في المقدمة، لكن لو جعلنا السرية في المؤخرة ما أدراهم؟ قد تعطينا الأخبار خطأ، فالله جعل العينين في مقدمة الرأس وفي أعلى الجسم؛ من أجل أن تستطلع دائماً وتنظر إلى الأشياء، وبعد ذلك ركب العين في الرأس، وجعل الرأس مركباً على الرقبة، والرقبة جعل لها قدرة لولبية على التحرك، لماذا؟ لكي يسهل عليك أن تنظر إلى الأجسام الغريبة، سواءً كانت أمامك أو خلفك، أو عن يمينك أو شمالك، دون أن تتحرك أنت، لكن لو أن الله جعل رقبتك من العظم وأردت أن تنظر إلى اليمين فكيف تعمل؟ تدور بجسمك كله، وإذا دعاك واحد من الوراء تلف جسمك كله، وكانت العملية صعبة جداً.

ولهذا عندما يكون الأستاذ في الفصل، هنا الأستاذ كذا والطلاب كلهم منتشرون في الفصل يريدون أن يروه لكي يسمعوا كلامه، لو أن رقابهم ليست متحركة لكان كل واحد عينه إلى الجدر، والأستاذ هناك لا أحد عينه فيه، لكن كل واحد من الطلاب قال كذا، وذاك هكذا من الزاوية التي له، وكلهم متجهون إلى الأستاذ بدون تعب.

أين جعل الله الأذنين؟ جعلها في الجنب، لماذا العينان في الأمام؟ لأنها استطلاعية فتكون في الأمام، وأما الأذنان فلأنها تجلب الأصوات والأصوات لا تأتي من جهة معينة بل تأتي من كل جهة، يمكن أن أسمع الصوت من أمامي وورائي، وعن يميني وشمالي بنفس القدرة بحسب المسافة، لأن مسافة سرعة الصوت معروفة، فإذا جاءتني السرعة من ثلاثمائة وثلاثين متراً من الأمام أو الخلف، أو من اليمين أو الشمال تأتي السرعة واضحة ، ليست مؤسسة على أساس الجهة ولكن مؤسسة على أساس المسافة، فأين جعل الله الأذن؟ جعلها في الجنب مع القدرة على الحركة بالنسبة للرقبة، فيمكن أن أسمع من أي مكان.

الحكمة من خلق الأنف

وجعل الله في رأس الإنسان الأنف ووظيفته الشم، والسماح بدخول (الأكسجين) والهواء إلى الجسم، ولكن حتى يبقى مفتوحاً باستمرار جعله الله من غضروف؛ لأنه لو كان لحمة لانطبقت، وإذا كنت تريد أن تتنفس فعليك أن تفتحها لكن لو وضعت عودين في أنفك، وانسد لمت، فالله جعلها غضروفية مفتوحة، ولم يجعلها عظماً؛ لأنه لو جعلها عظماً وأتيت لتمتخط كيف تفعل؟ فجعلها غضروفاً وعليها لحم مقوى قليلاً فتعتصر ويعتصر معها المخاط ويخرج منك الأذى، لكن لو كانت عظمة فإنك لا تقدر أن تعصر العظم وتخرج المخاط منه، فتضطر أن تأخذ عوداً وتدخله إلى أنفك لتخرج الأوساخ التي فيه.

وبعد ذلك جعل الله تعالى في هذه الأنف شعيرات وخلايا دموية مكثفة، من أجل أن تقوم بعملية تكثيف وتغيير وتحسين درجة حرارة الجو الخارجي ليتناسب مع درجة حرارة الجسم، ولذا ترون في أيام البرد درجة حرارة الهواء الخارجي مثلاً (20 أو 15 أو 16) درجة، وأحياناً في الليل تكون (10) ويمكن أن تكون (8 أو 7) درجات، لكن درجة حرارة الجسم ثابتة (37) درجة في الظروف العادية، وفي حالة المرض ترتفع إلى (38) أو (40)، وإذا وصلت إلى (42) درجة قد يموت فيها الإنسان، فإذا كانت درجة حرارة الجسم (37) درجة، ودرجة حرارة الهواء الخارجي (15) درجة واستنشقت الهواء حتى يدخل إلى رئتك، يجب أن يكون موازياً وقريباً من درجة حرارة جسمك وإلا أصبت بنزلة مثل المروحة، فماذا يصنع الجسم؟

يقوم الأنف هذا بتدفئة الهواء البارد، ولهذا تشتغل الشعيرات الدموية وتتحرك أكثر من اللازم، ولذا ترون الإنسان في الليالي والأيام الباردة يحمر أنفه؛ لاشتغال الدم فيها، فالشعيرات الدموية عندها حركة قوية لتدفئة الهواء الخارجي حتى لا يتعارض مع الهواء الداخلي فيحصل لك مصيبة بهذا، ولهذا بعض الناس عندما يجلس في غرفة البيت وقت العشاء أو في سمرة مع أهله والجو دافئ جداً قد تكون درجة حرارة الغرفة أربعين، الدفاية من هنا والنار من هنا وهو ملتحف بالشملة، ثم يدعوه فيقوم ويرمي بالشملة ويخرج، فيصيبه الهواء، فماذا يحصل له؟ مرض، ما سببه؟ أن الهواء دخل إلى جسمه بأقل من ذلك، وبسرعة مفاجئة لم يتمكن الأنف من التدفئة فحصل للإنسان نزلة، يسمونها نزلة شعبية، أو نزلة هواء، أو نزلة حادة. فهل تريد أن يجعل لك الله كل يوم مرضاً، على أساس أنه ليس هناك شعيرات؟ لا، ركبَّ الله لك أنفاً من الغضروف وعليها لحم مكثف وفيها شعيرات دموية؛ لأجل أي هواء تشمه أو تستنشقه وهو بارد تدفئه هذه الشعيرات ويدخل جسدك وهو موازٍ وقريب من درجة حرارة جسدك فلا يحصل لك المرض.

هذه حكمة، أم ليست بحكمة؟ من فعل هذه الحكمة بالضبط؟

يقولون: الطبيعة. من الطبيعة؟ ابنة من هي هذه الطبيعة؟ ما شكلها؟

قالوا: الطبيعة، الطبيعة عندنا هي الأرض، طبيعة الأرض التي نركلها بأرجلنا، الصماء البكماء العمياء، هل يمكن للطبيعة هذه أن تخلق هذا الشيء؟

وبعد ذلك أتخلق هذا الإنسان الغريب الأطوار، الغريب المراحل؟ وبعد ذلك أتخلق كل إنسان له شكل مختلف عن الآخرين؟

الآن العدد السكاني للأرض والعالم بأكمله تقريباً (4 مليار) لكن هل يمكن أن تجد في (4 مليار) اثنين سواء؟ لا تجد، يمكن أن تجد متشابهين في الشكل لكن تعال واختبرهم في الذكاء، ترى أن نسبة الذكاء عند هذا غير نسبة الذكاء عند هذا، تجد هذا آماله غير آمال هذا، وآلام هذا غير آلام هذا، ومشاعره غير مشاعر هذا، كل شخص من الناس له عالم مستقل بذاته، فمن يستطيع أن يشكل ويصور ويعمل كل هذه؟

وبعد ذلك هؤلاء (4 مليار) بعد مائة سنة يستبدلون بجدد، فبعد مائة سنة لن يكون على وجه الأرض واحد من هؤلاء الموجودين الآن، أي: الذي ولد اليوم بعد مائة سنة ليس موجوداً فضلاً عن الذي هو موجود من قبل سنتين أو ثلاث أو أربع أو عشر أو ثلاثين أو خمسين أو أربعين مثلي، بمعنى: أنه يصير تبديل للناس كل مائة سنة، والنادر لا حكم له، يمكن أن يعمر شخص في القبائل كلها فيصير عمره مائة وخمس سنوات أو مائة وعشر سنوات، وهذا شاذ، والشاذ لا حكم له.

الحكمة من خلق الأسنان

حكمة الله عز وجل تلحظها أنت في خلق أسنانك، فعندما يولد الإنسان يولد وكل الحواس موجودة فيه، حتى الرأس فيه شعر؛ لكي لا يبرد في الليل إذا خرج، الله أعطاه شعراً يسمونه شعر البطن، لكن الله لم يعطه أسناناً، لماذا؟ لأن طعامه سوائل، هل يحتاج لأن يكسر بأسنانه؟ معدته لا تهضم إلا السوائل، ولو أعطيناه طعاماً ناشفاً، ولو فتحنا فم الصبي الذي ولد وأعطيناه أرزاً وقطعة لحم وحبة برتقال، ما رأيكم بهذا الصبي المسكين؟ يموت رأساً، معدته ضعيفة جداً جداً، ولا تستطيع أن تهضم السوائل إلا بصعوبة، ولذا لماذا يعطيه الله أسناناً وهو غير محتاج لها في هذا السن؟

فهل هناك مخلوق في الدنيا منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا خلق وله أسنان؟ لا يوجد، فلو أعطاه الله أسناناً، وطعامه سوائل، والطفل هذا لا يعقل، وقامت أمه وأعطته الثدي وهو يريد أن تعطيه طعاماً، ومن حين يمسكه يعض بأسنانه، من يفكه؟ تقرصه أمه تفتح فمه، لكنه لا يعرف، مسكين، فحتى لا يعض أمه، ولأنه لا توجد حاجة للأسنان، فإن الله خلقه بدون أسنان.

وبعد سبعة أو ثمانية أشهر أصبح قوياً وعنده قدرة على الطعام، بدأ التمرين على الطعام الخشن، فأنبت الله له اثنتين فوق واثنتين تحت، لماذا؟ لكي يقطع بها الحلاوة (والبسكويت) والموز، لكن ما أعطاه الله ضروساً؛ لأن الضروس لا يطحن عليها شيئاً الآن، هو الآن يريد حاجة لينة قد أصبحت جاهزة يفصلها فقط لكن يطحنها فليس بمحتاج، بعد فترة أعطاه الله بجوار الثنايا هذه أنياباً لكي يخرق بها، وبعد ذلك وضع الله فوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، لكن لو وضع الله فوق الثنية ناباً لما قطعت، ولو وضع الله تحت الثنايا ضروساً لما طحنت، ولكن لأجل أن يصير الطحن مضبوطاً وضع الله فوق الضرس ضرساً، مثل الرحى التي لها واحدة فوق وواحدة تحت، ووضع الله فوق الثنية ثنية مثل المقص الذي جلب من فوق ومن تحت، وضع الله فوق الناب ناباً مثل (المخدر) الذي فوق وتحت لكي (يخدر)، وبعد ذلك استمر اكتمال الأسنان، تنمو السن إلى مستوى معين وتقف، لماذا لم يستمر نمو السن هذه إلى أن تصل إلى سرتك؟ ولماذا لم تطلع سنك هذه حتى تصل إلى رأسك؟ من علم السن في كل البشر أن يقف عند هذا المستوى، ولا يطول ولا ينقص ولا يقصر؟ الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

ثم بعد فترة أربع أو خمس أو ست سنوات يبدل الله لك أسنانك، فتلك أسنان ضعيفة أعطاها الله لك لأنك صغير، لكنك الآن تريد أسناناً قوية تعيش معك حتى تموت فييسر لك قلعها، تأخذ السن وترميه ويبدلك الله سناً غيره، والناس عندهم خرافة -لا أدري هل ما زالت موجودة، أم قد انتهت؟!!- إذا انقلع سنه أخذ السن وأبقاه معه. ما بك؟ قال: غداً عندما تطلع الشمس. وإذا كان اليوم فيه غيوم ولا توجد شمس فتراه يربطه في منديل أو يضعه في (غترته) أو في جيبه ويأتي في الصباح يأخذ سنه ويقول: يا عين الشمس! (خذي سن الحمار) يعني سنه هو كيف أصبحت سن الحمار وهي سنك؟ تعترف بأنها سن حمار، وأنت رجل؟ (وأعطيني سن الغزال!!) والله إن هذا الكلام كنا نعمله ونحن صغار، وما أدري هل العلم حرر الناس من هذه الخرافات أم أن بعض الناس لا زالوا يعملونها؟ وبعض المدرسين يفعلونها، أو بعض الثانويين؛ لأنه يخاف أن تأتيه سن حمار، سبحان الله!

هناك شخص أراد أن يأتي بشيخ ليعظ الناس وهم كلهم فهماء وعقلاء، وبعضهم مدرسون وبعضهم جامعيون في قرية من القرى، فقال هذا الشخص: تعال يا شيخ ذكرهم بالله، قال: كيف أذكر البقر؟ فقال: هؤلاء بشر. قال: أنا لا أذكر البقر. قال: اتق الله، وأحسن الظن بالناس، هؤلاء بشر يفهمون وهم مثقفون. قال: هل أعطيك دليلاً على أنهم بقر؟ قال: نعم. فجمعهم وقام في المسجد يحدثهم. وأتى بحديث -هو كذب- وقال: ورد في الآثار في بعض الكتب: أن من استطاع أن يمس أرنبة أنفه بلسانه أدخله الله الجنة. فقام كل واحد يفعل ذلك، وكل واحد مد لسانه يريد أن يصل، يقول لهم: هل تقدرون الآن أن تفعلوها؟ ثم قال لصاحبه أرأيت أنهم بقر؟ أول شيء ليس من المعقول أن الواحد يمس أرنبة أنفه بلسانه؛ لأنه توجد مسافة بعيدة، وحتى لو كان أحدهم لسانه طويلاً فلماذا يدخله ربي الجنة؟ على أساس أن لسانه وصل إلى أنفه؟ يعني أن هذا العمل معجز بحيث إنه يستحق الجنة على هذا؟ فوقف الرجل بعد أن مدوا ألسنتهم قال: يا جماعة! أرأيتم أنكم بقر؟ وأعطاهم درساً ووعظهم وقال: شغلوا عقولكم.

فنحن من قبل لم نكن نشغل عقولنا، نرى الناس يأخذون السن ويقولون: سن حمار ويرجم بها في عين الشمس، وبعد ذلك تنتهي السن عليه، أنا والله قد عملتها وانتهت السن عليَّ، أي: أن الشمس لم تمد يدها وأخذتها وإنما رميت بها هكذا وعادت السن، فتركته مكانه ولم آخذه.

فحكمة الخلق في الإنسان ظاهرة في كل شيء في الفم ورشة متكاملة عبارة عن قواطع وطواحن و(كريك) هو هذا اللسان، وهناك أنابيب لإفراز اللعاب لكي يخلط الطعام، وبعد ذلك يمضغ ويطحن ويجهزه، وأنت الآن عندما تأخذ الطعام وتمضغه وتخرجه تراه قد أصبح جاهزاً للهضم، فينزل على المعدة، والمعدة دورها ليس المضغ؛ لأنه ليس فيها عظام، المعدة دورها الهضم، والهضم هو عملية تحليل الطعام، فهي تفرز حمضيات قلوية شديدة وحامضة أيضاً، ولهذا عندما يصاب بعضهم بقيء فإنه يخرج منه شيء أصفر حامض جداً، هذا هو المادة الموجودة في بطن كل إنسان، إذا أفرزت هذه المادة على الطعام حللته، وبعد التحليل مرة واحدة يذهب ينتقل إلى الأمعاء، ومن الأمعاء يذهب ويتوزع على الدم، ومن ثم إلى الجسم.

فبعض الناس يستعجل على الأكل فما يمضغ الطعام جيداً، بل يأكله بسرعة، ويأخذ اللقمة، وبدلاً من أن يمررها على الأسنان لكي تمضغها وعلى اللسان، لا، رأساً من فمه على بوابة البطن، وعندما ينزل إلى المعدة تأتي المعدة المسكينة ليست قادرة على هضمه؛ لأنه طعام ليس مطحوناً، وليس جاهزاً، فتضطر أنها تفرز مواد أكثر حتى تهضمه وتتغلب على هذه المشكلة، وهذا التغلب يحدث لها أمراضاً في المستقبل وهو ما يسمونه بقرحة المعدة، وعسر الهضم، وسوء الهضم، ومشاكل المعدة كلها بأسباب أن الإنسان يأكل الطعام ولا يمضغه جيداً، ويستعجل في بلعه قبل مضغه وقبل تحسينه.

كيفية إنزال الطعام وحكمة الله في ذلك

كيف ينزل الطعام؟

للإنسان قصبة اسمها المريء، وله قصبة ثانية اسمها: القصبة الهوائية، وقد جعلها ربي من غضروف؛ لتكون مفتوحة باستمرار لدخول الهواء، إذ لو كانت مثل المريء من لحمة لغلقت، فكيف يدخل الهواء؟ وجعل الله الأنف غضروفياً ليكون المجال مفتوحاً، فالأنبوبة التي تستقبل الهواء من بداية الفم إلى الرئتين غضروفية، مفتوحة وأنت نائم ومستيقظ وتشتغل وجالس... مفتوحة باستمرار لكي توصل لك مادة الحياة باستمرار؛ لأنك لا تستطيع أن تعيش من غير الهواء لحظة واحدة.

أما المريء الخاص بالطعام فلو جعله الله غضروفياً مفتوحاً باستمرار فبمجرد أن تعمل حركة رياضية وتنتكس، ماذا يصير؟ ينصبَّ الذي في بطنك كله، ولهذا جعل الله هذه القصبة لحمية، وبعد ذلك جعلها ذات عضلات تقبل إدخال الطعام ولا تقبل إخراجه، بمعنى: أنك إذا أخذت اللقمة ومضغتها وبلعتها لا تنزل إلى المعدة مباشرة، بل تدخل الطعام فيها إلى العضلات التي تعصره عصراً، ولو أن هذه الخاصية -خاصية العصر- ليست موجودة لوقفت اللقمة في الحلق، ولو وقفت اللقمة في الحلق فمن ينزلها؟ تشرب ماء.. اللقمة أكبر من الماء، لا يوجد إلا أن تستعين (بالمرياز) الخاص بالبنادق، فتفتح فمك؟ ويأتي شخص ويضع (مرياز) ويدق ويدق حتى يدخل اللقمة، وبعد ذلك تأتي باللقمة الثانية ويدق، وهل يمكن هذا العمل يا إخوان؟!!

انظروا نحن لا نتفكر والله، أشياء كثيرة من حكم الله فينا، لكن لا يقبلان أن ينفتحا معاً، فتقفل البلعوم الخاص بالهواء إذا كنت تأكل، فإذا كنت تأكل تقوم اللحمة هذه فتقف على قصبة الهواء، حتى تمضغه فإذا مضغت وبلعت انفتح البلعوم لأجل أن يسمح للهواء، ولهذا لا يستطيع الواحد أن يتكلم وهو يأكل؛ لأن الكلام عبارة عن استغلال لثاني أكسيد الكربون الذي يخرج من جسدك. يدخل الأكسجين نقياً فتأخذه الرئتان، وبعد ذلك يرجع وقد أصبح ثاني أكسيد الكربون وهو لم يعد فيه مصلحة؛ فحتى لا يخرج ثاني أكسيد الكربون بدون مصلحة شغَّل الله حبالاً صوتية في الرقبة والفم من أجل أن تأخذ هذا الهواء، ويترجم إلى كلام؛ لكي لا يضيع شيء من الإنسان، فما يستطيع أن يتكلم وهو يأكل في نفس الوقت.

وإلا أصابته الشرقة وهي أن اللسان جاءه أمر من الدماغ أن يدخل الطعام، ثم جاءه أمر من الدماغ أنه يطلع هواء من أجل أن يتكلم الرجل، فعنده أمر مضطرب، أن يفتح الاثنين، ففتح الاثنين فدخلت لقمة في قصبة الهواء فاشترق الإنسان، فما هي الشرقة؟

هي أن تدخل حبة أرز أو قطعة طعام في المريء، ولو دخلت في البلعوم واستمرت فسيموت الإنسان مباشرة، لكن أيموت الإنسان بسبب هذه الشرقة البسيطة؟ لا. إذا حصلت هذه الشرقة تصدر إشارة من المخ لقوات الطوارئ الموجودة في الرئة أن هناك جسماً غريباً، فتقوم الرئة بطرده: كح.. كح.. كح.. ماذا بك؟ قال: شرقت. ويأتي بعض الناس يدقونه في ظهره، وهذه الدقة تساعد على الطرش فتخرج، إذا ما خرجت هذه يقعد الواحد (يكحكح) قال: والله ما زالت الشرقة. والشرقة: هي نقطة ماء أو حبة أرز أو قطعة طعام كادت تودي بحياة الإنسان، بل البعض يقول: كنت سأموت. ما بك؟ قال: والله إني شرقت، لكن الله رحمني وإلا كنت سأموت؛ لأنك ضعيف لا تتحمل نقطة أو حبة أرز في بلعومك، فالله عز وجل حفظك ولا يضيعك؛ لأنه حكيم أوجد فيك هذا الخلق.

من حكم الله تعالى في الرأس

هذا الرأس الذي فيه كل هذه الحكم فيه أربعة أنهار؛ نهر يمد العين بماء مالح، ونهر يمد اللسان بماء ولعاب، ونهر يمد الأذن بمادة صمغية مرة، ونهر يمد الأنف بمادة مخاطية ليس لها طعم، لماذا كل هذه الأنهار؟

لأن العين شحمة، وهذه العين لو تركت بغير الدمع الملحي لتعطلت ولنشأ فيها الدود، الآن نأتي باللحمة ماذا نضع فيها؟ ملحاً؛ لكي لا يعفن، وهذه العين قطعة شحم وحتى لا تعفن فقد خلق الله فيها الدمع المالح.

ووضع الله عز وجل في فمك اللعاب الحلو؛ لكي تهضم الطعام، ووضع في أذنك المادة الصمغية المرة؛ لكي تمنع الحشرات من دخول أذنك، وإذا شمتها الحشرات من بعيد فإنها تهرب، وإلا لو أن هذه المادة ليست موجودة لقمت في الصباح ولقيت أذنك قد امتلأت جرذان وحشرات وذر ونمل، لكن لا يدخل أذنك شيء، فهذه حكمة الحكيم تبارك وتعالى!

الحكمة من جعل اليد في أعلى ا لجسم

كل شيء فيك أنت أيها الإنسان خلق لحكمة، فموقع يديك لحكمة، ومن حكمة الله عز وجل أن جعل يديك في أعلى جسمك، لماذا؟ لتنفعك في حاجة جسمك، لكن ما ظنكم لو أن اليدين وضعت مكان الرجلين، وأردت أن أحك رأسي ماذا أفعل؟ فلابد أن أحني رأسي إلى عند يدي وأحك، لكن الله جعل اليدين في أعلى الجسم فبإمكاني أن أحك رأسي وبإمكاني أن أحك رجلي وأنا جالس.

وبعد ذلك فصَّل الله يديك مفاصل، أول المفاصل في الإصبع الصغيرة، ومفاصل بعدها، لماذا؟ لتكون سهلة الحركة، لأنه كلما كانت المفاصل أكثر كلما كانت القدرة على الاستفادة من العضو أكثر، لكن ما ظنكم لو أن الله خلق لك يداً كالعصا، كيف تحك رأسك؟ كيف تفعل؟ كيف تربط؟ كيف تحمل؟ كيف تشد المسامير ويدك هكذا؟ ولو أن يدك مستقيمة لتعطلت كل الحضارات التي نعيش فيها الآن، ووالله ما طارت طائرة وما تحركت (مكينة) ولا عرف أحد يشد مسماراً على شيء؛ لأنه كيف أشد ويده هكذا؟ (الصميل) في المضاربة ينفع، لكن هل الله خلقني لأضارب فقط؟ لا، الله ما خلقني للمضاربة، بل للعبادة، ولهذا فصل الله جسدي للعبادة تفصيلاً، بمعنى: أنه من أسفل إصبع في الرجل إلى أعلى رأسك كلك مفصل على قدر، ولهذا في الإنسان (360) مفصلاً مربوطة بـ(360) عضلة مربوطة مع (360) عظماً، مع أوردة، وجسم، وعضلات فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].

تأتي إلى أسفل وترى الجهاز الهضمي والتنفسي والدموي والعصبي والعظمي، أجهزة عجيبة خلقها الله كلها لحكمة لا تطغى عليها.

أيها الإخوة! أليست العين -كما قلنا- والأذن واليد والرجل وجدت لحكم؟ والقلم والورقة والحذاء في رجلك لحكم؟ ما رأيكم لو رأينا من يلبس الأحذية في يده؟! ذهب وأخذ له أحذية إيطالي بمائة ريال ووضع واحدة هنا وواحدة هنا، وإذا به ماش في الشارع، فإن الناس يمسكون به، ما بك؟ قال: ما بي؟ أنتم تضعونه في أرجلكم وأنا أضعه في يدي فماذا يحكم الناس عليه بالعقل أم بالجنون؟ والله يكتفونه فوراً، ويذهبون به إلى المستشفى العام، لماذا؟ لأن الأحذية لا تستعمل إلا في الأقدام، أما اليد لماذا لا نضع عليها أحذية؟! لأننا نضع فيها كفوفاً من أجل أن تقينا البرد، فحكمة الحذاء السير بها، إذا وضعنا الحذاء في غير مكانه فهذا خطأ.

عقول قاصرة عن فهم الحكمة من خلق الإنسان

كل شيء في الإنسان وجد لحكمة، نعم أنت كلك وجدت لحكمة، هل تدرون ماذا يقولون في الغرب؟

يقولون: أنت كلك من غير حكمة. تجد البروفيسور، والمخترع والدكتور والمهندس العظيم في أوروبا أو أمريكا أو روسيا رغم أنهم غاصوا في أعماق البحار والمحيطات وسبحوا في الفضاء واخترعوا اختراعات عجيبة؛ لكن تأتي إليه وتقول له: لماذا يا بروفيسور أنت موجود؟

يقول: والله لا أدري.

لماذا خلقك الله؟ لماذا أنت موجود هنا؟ لأي حكمة؟

قال: لا توجد حكمة من خلقي.

حسناً هل لحذائك حكمة؟

قال: نعم.

إذاً: أنت أقل قدراً من حذائك الذي في قدمك؛ لأن حذاءك صنع لحكمة وأنت لست موجوداً لحكمة، الذي ليس له حكمة ليس له قيمة عندما يكون لديك (ثلاجة) في البيت، ما الحكمة منها؟ تبريد، فإذا ذهب منها (الفريون) ولم تعد تبرد، هل بقي لها حكمة؟ تأخذها وترميها، يقول الناس: لماذا ترميها تقول: قد تعطلت وكذلك الإنسان إذا لم يكن من وجوده حكمة إذاً لماذا يبقى في الوجود؟

ولهذا -حقيقة- الإنسان اليوم في فساد إلا المسلم، وما ترون الآن من صراع بين الدول الشرقية والغربية من أجل تدمير الإنسان، فهذا ناتج عن أن هذا الإنسان فاسد، واليوم هناك اجتماع لمسئولين من روسيا وأمريكا لمعاهدة بنزع السلاح الذري من الصواريخ المتوسطة والقريبة المدى، أما الكبار الطويلة، فلا، هذه ما نقدر أن نبعدها؛ لأنها تقوم من روسيا فتدمر أمريكا، وتقوم من أمريكا فتدمر روسيا . أنا سمعت الأخبار تقول: إن روسيا عندها (220) صاروخاً الواحد يدمر نيويورك، التي فيها عشرة ملايين، وفي أوروبا أيضاً هذه الصواريخ من هذا النوع موجودة، وعندها (110) صواريخ من سي سي تو، وعندها (110) صواريخ من (سي سي ثري) يعني عندها (440) صاروخاً الواحد يدمر الدنيا كلها، لماذا صنعت هذه؟ لأن الإنسان فاسد، لو أن الإنسان صالح ما كان سيصنع هذه.

ولذا لما رأوا أن هذا التدمير سيعم وسيؤدي بالتالي إلى تدمير أنفسهم راجعوا عقولهم قالوا: تعالوا نتعاهد على أن ننزعها ونتركها، قد خسروا فيها ملايين الملايين، إن الصاروخ الواحد الذي ينتجونه يستطيع أن يقوت العالم سنين، لكن العالم يموت من الجوع وترمى الأغذية في البحار ويموت الناس في أفريقيا وأمريكا، وهناك من هم مصابون (بالإيدز) والأمراض الفتاكة بدون علاج، وهم يخترعون هذه لتدمير الإنسان؛ لأن الإنسان نفسه فاسد؛ ولأنه ما تعلم من الله الذي خلقه، فلم يهتد بهداية الله الذي خلقه فهو فاسد، ولو كان الدين والإسلام هو المسيطر على البشرية، وهو الحاكم لتصرفاتها ما كنت لترى هذا الفساد، والله يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].

أنت أيها الإنسان لك حكمة، وإذا قال إنسان بأنه ليس له حكمة، فهو يلغي وجوده، وكأنه أحقر من حذائه الذي في قدمه، لأن حذاءه له حكمة، ما هذه الحكمة؟

لا يعرف الحكمة من خلقك إلا الذي خلقك؛ لأنه هو الذي أتى بك، ويعرف من أتى بك؟ ولماذا أتى بك، فأخبرك الله بالحكمة فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] هذه هي الحكمة وهي واضحة مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58] فالحكمة من خلقك أن تعبد الله.

والعبادة التي طلبها الله عز وجل منك عبادة شاملة لا عبادة جزئية، عبادة متكاملة متوازنة تلبي مطالب الروح، وتستجيب لمطالب الجسد، وتعمر الدنيا والآخرة، ليست العبادة بمفهومها الضيق الذي عند بعض الناس: هي فقط مجرد الشعائر الدينية، إن الشعائر الدينية هي جزء من العبادة، ولكنها ليست العبادة كلها، إن العبادة بمفهومها الشرعي ما سبق أن تعلمناه في الابتدائي: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. كل شيء عبادة، أنت في الشارع تسير وتغض بصرك؛ بهذا تعبد الله، وأنت في المتجر تبيع وتتصدق ولا تغش ولا تكذب ولا تحلف كاذباً؛ تعبد الله، وأنت تأكل وتذكر الله وتسميه وتحمده عند النهاية؛ تعبد الله، وأنت تأتي زوجتك وتسمي الله وتحمده الذي غض بصرك ورزقك الزوجة الحلال، وأنت تنام على فراشك وتستقبل القبلة وأنت متوضئ وتذكر الله بالأذكار، وأنت تأتي إلى المسجد وتصلي وتقرأ القرآن تعبد الله، وتدرس في المدرسة وتعتبر التدريس رسالة لا وظيفة -فرق بين من يعتبر التعليم وسيلة رزق وارتزاق، وبين من يعتبره رسالة حياة ومهمة ومسئولية- إن من يمارس عمل التعليم وهو يتصور أنه يرتزق لا يجعل الله في تعليمه بركة، أما الذي يمارس التعليم على أنه رسالة ومهمة إنسانية وإسلامية؛ أربي فيها أولاد المسلمين على الإيمان والدين، وأستغل مادتي، حتى ولو كانت مادة بعيدة عن المنهج الديني لكني أطوعها وأجعلها إسلامية، أنا مدرس علوم لكني أسخر المادة لخدمة العقيدة، فلما آتي لشرح النظرية أو الحقيقة العلمية أو أي شيء من مظاهر الكون أرجعه إلى الله، لكن لا أقول: إن الأرض كانت جزءاً من الشمس وأنها انفصلت عنها بسبب أنها تضايقت منها، وبعد ذلك انفصلت، ويوم أن ذهبت هناك وبقيت مليوني سنة، وبعد ذلك اتحد اثنان (هيدروجين) مع واحد (أكسجين) وصارا ماء، وبعد ذلك ذهب هذا الماء في المنخفضات فصارت بحاراً والمرتفعات بقت جبالاً، وبعد ذلك انتهت.

إذاً من فصلها وخلقها وركبها؟ هذا ما لا يبينه أكثر المدرسين إلا من رحم الله؛ فينشأ عند الطفل أو عند الطالب تصور إلحادي أن الكون خلق نفسه، لكن في الإسلام يقول: لا. إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ويقرأ عليهم القرآن ويقول: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:9-12]، هذا خلق الله الذي خلق وأخبرنا.

أما الذي يقول: إنها كانت جزءاً من الشمس وأنها انفصلت، نقول: من أين كنت تراقب العملية في ذلك اليوم؟ يقول: والله ما أدري. فعلاً هو لا يدري ولا يدري أبوه ولا أمه، إن ذلك كان قبل خلق الإنسان، والله يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الكهف:51] يعني: ما حضروا يوم خلق السماوات والأرض وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51] فمدرس العلوم والرياضيات والاجتماع وعلم النفس، أي مدرس يستطيع أن يسخر المادة لخدمة العقيدة الإسلامية، ومدرس الدين بطبيعة الحال والتربية الرياضية والفنية أيضاً يستطيع أنه يخرج من هذه المادة إلى الإسلام، فإذا مارس هذا العمل كان عمله عبادة، وهو موظف ويأخذ أجراً، لكنه ينال عليه أجراً من الله عز وجل.

فالحكمة التي من أجلها خلقك الله أيها الإنسان هي العبادة، والعبادة يجب أن نأخذها بالمفهوم الشرعي المتكامل، وأيضاً أن نكون واقعيين مع أنفسنا في المفهوم الشرعي، يعني: لو سألت واحداً منكم وقلت له: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ [الذاريات:56] كلكم تقولون: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] هكذا، أو لا؟ ليس هناك واحد يقول: إلا ليأكلوا أو ليلعبوا، أو ليدرسوا، أو ليذهبوا إلى النادي ليلعبوا كرة، أو للسمر والنزهة، هل هناك من يقول هذا الكلام؟ لا، لكن الحقيقة أنا نعمل كل هذه الأشياء إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] لكنا لا نعبد الله، نلعب ونأكل ونسمر ونضيع حياتنا في غير ما خلقنا الله له، أجل نغالط أنفسنا نحن ما خلقنا: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:65] ونأتي وننظر: هل نعبد الله حقيقة، أم لا؟ بالمفهوم الكامل ما معنى: "نعبد الله" إننا نظل نعبد الله طوال حياتنا في المساجد، لا، وإنما أعبد الله في المسجد، وإذا انتهيت من الصلاة أذهب إلى المدرسة، وفي المدرسة أعبد الله، كيف؟ أولاً: أحرص على الوقت، ثانياً: أحرص على وقت الأستاذ، ثالثاً: أركز ذهني لكي لا أضيع يوماً من حياتي، رابعاً: أكون واقعياً صادقاً مع أستاذي، خامساً: أنوي بدروسي هذه أني عندما أتخرج أكون داعية إلى الله، وأن أنصر دين الله، وأستعين بما رزقني الله على خدمة هذا الدين، فأكون بهذه الدراسة في عبادة.

لكن لما أدرس ونيتي الدنيا فقط؛ أدرس لكي آخذ الثانوية العامة وأدخل الكلية وأنجح من الجامعة، أو آتي بنجمة من كلية الأمن أو الكلية العسكرية، وبعد ذلك أبني لي عمارة وأشتري لي سيارة، وأتزوج زوجة، وأستريح، وأتمشى، وأسمر، وآكل، وأشرب، هل هذا هدف؟ لو سألت كافراً يهودياً أو نصرانياً وقلت: تعال يا (جيمس) أو أو : ماذا تفعل في الثانوية؟ قال: أدرس الثانوية. وبعد ذلك؟ الجامعة، وبعد ذلك؟ أتخرج من الجامعة، وبعد ذلك؟ قال: أبني لي عمارة، وأشتري لي سيارة، وأنكح زوجة، وأتوظف، حسناً! ما الفرق بين هذا وبين (جيمس)؟ كلهم سواء، النية واحدة، فقط هذا اسمه محمد وهذا اسمه (جيمس)، وهل الأسماء تغير من الحقائق شيئاً؟ لا. لا تغير شيئاً.

فيجب أن تكون نيتك من التعليم حسنة، ويكون هدفك من التعليم نصرة دين الله، وأن تكون داعية إلى الله، وأن تكون فرداً صالحاً في هذا المجتمع تدعو فيه إلى الخير، وتأمر فيه بالمعروف، وتنهى فيه عن المنكر، وأن تكون لبنة صحيحة قوية صالحة في بناء هذه الأمة؛ لأن الأمة بناء، وإذا كان هناك لبنة فاسدة، فأنت قد تكون سبباً في سقوط المبنى كاملاً، كذلك صندوق التفاح الذي فيه مائة تفاحة لكن فيه واحدة فاسدة، فإنها تفسده ولا يصلحها، تسعة وتسعون تفاحة لا تستطيع أن تصلح تفاحة واحدة، لكن تفاحة فاسدة تستطيع أن تفسد تسعة وتسعين تفاحة! لأن الهدم سهل والبناء صعب.

فعرفنا أن الحكمة من خلقنا هي العبادة، ويجب أن نكون -كما قلت- واقعيين مع أنفسنا، وأن نتناول هذه الكلمة بمنطق العقلاء، وأن نحاسب أنفسنا على مضمونه، ونسأل أنفسنا: أين نحن منه؟ فإن وجدنا أننا نعيش في دائرة العبادة وفي مضامينها، سواءً كانت هذه العبادة عقيدة أو شعيرة أو سلوكاً أو معاملة أو دراسة فنحن إن شاء الله في الدائرة الإسلامية، وقد حققنا مراد الله منا.

دعوة إلى المبادرة بالتوبة النصوح

إذا كانت العبادة بمفهومها الكامل في وادٍ ونحن في وادٍ آخر فلنراجع أنفسنا، ولنصحح المسار مع ربنا قبل أن نفرط ونجازف بأنفسنا ونذبحها في قضية المصير الخطيرة؛ لأنك قد تجازف في كل أمر وتصحح الخطأ إلا مجازفتك مع الله، فإنك إن مت وقدمت على الله وقابلك الله وهو غضبان عليك، وقد خسر البعيد الخسارة التي لا تعوض، ولم يعد هناك فرصة -أيها الإخوان- للتصحيح، إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح في هذه السنة قد تنجح في السنة القادمة، وإذا لم توجد لك وسيلة في الدراسة تبحث لك عن وسيلة في الوظيفة، وإذا لم تنجح في الوظيفة هذه تبحث لك عن وظيفة ثانية، وإذا تزوجت زوجة ولم تنجح معها تتزوج بأخرى غيرها، لكن إذا مت ولقيت الله وعرفت أنك خسران -أيها الإنسان- مع الله هل هناك فرصة أن ترجع إلى الدنيا لكي تصحح الخطأ مع الله؟ هل هناك إمكانية إن الله يخبرنا ويقول: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] لماذا ترجع؟ ما قال: لعلي أرى أولادي، أو عمارتي، أو مزرعتي، أو دكاني أو تجارتي، بل قال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] عرف أنه لا ينفعه في الآخرة إلا العمل الصالح، حسناً لماذا لا تعمل -من الآن- صالحاً؟ من الذي منعك من أن تعمل الصالحات من الآن؟ لماذا تؤخر العمل الصالح؟ أتريد أن تؤخره حتى تموت ثم تطلب أن ترجع لتعمل الصالحات فلا تلبى ولا تجاب؟

رأى أحد السلف جنازة محمولة على الأعناق ومعه أحد تلامذته فقال له: يا بني! ما ظنك لو ردت الروح لهذا الميت؟ قال: يطيع الله فلا يعصيه أبداً -وفعلاً لو أن واحداً من الأموات رجع والله لا يعصي الله أبداً- قال: فكن أنت هو.

يقول: كن أنت كأنك أنت الذي مات موتة وأرجعك الله عز وجل، خذ من موته عبرة، وأنتم كل يوم ترون أمواتاً، هؤلاء الأموات أمنيتهم أنهم يعودون مثلكم يصلون ويصومون، فخذوا من أمنيتهم درساً لكم، ولا تفوتوا على أنفسكم الفرصة، ولا تفرطوا في المجالس فالفرصة ما زالت سانحة لكم؛ لأنكم مهددون بالموت في كل لحظة، فقد يأتي الشيطان فيقول للواحد: أنت ما زلت صغيراً، وأنت الآن عمرك (15) أو (16) أو (18) سنة، يا أخي! عندما تتزوج وتكبر فإنك سوف تتوب، حسناً هل عندك ضمان بأنني سأعيش (20) أو (30) سنة؟ إذا كان عندي ضمان فسأطمئن، لكن ما دام أنني مهدد بالموت فيمكن أن أموت الآن، من يضمن منا ومنكم أن يعيش ويصلي الظهر؟ هل أحد يضمن ذلك؟ والله لا أحد يضمن ذلك.

وأذكر مرة من المرات أن مجموعة من الشباب كانوا يدرسون في كلية الطب في أبها زاروني في البيت، فجلست معهم جلسة مثل هذه الجلسة الإيمانية، وكان في آخر الكلام أنني قلت لهم: يا إخوان! ما عندنا ضمان بالحياة فلا بد أن نسارع بالتوبة، فإن مد الله في أعمارنا؛ لأننا كل يوم نقضيه في طاعة الله، كل يوم نصلي فيه خمس صلوات، وكل سنة نصوم فيها شهراً، وكل سنة نزكي فيها، نحج فيها ونعتمر فيها، ونتصدق فيها، ونعمل خيراً، فمعنى هذا: أن الزيادة في أعمارنا ونحن على العمل الصالح في زيادة خير ورفع الدرجات فأتوب من الآن وأحسن النية وأصحح الوضع مع الله، وأجزم أني لا أعصي الله عز وجل، وأبدأ في الهداية ثم يأتيني القدر غداً، وإذا بي لا أندم، لكن الذي لا يتوب إن جاءه الموت ندم، وإن لم يأته الموت فهو في خسران كل يوم، كل يوم يضيع خمس صلوات، فلو مات اليوم أحسن من أن يموت غداً، لو مات اليوم يكون ذنبه معيناً، لكن لو مات غداً فعليه ذنبه ذاك وعليه ذنب خمس صلوات، لو مات اليوم أحسن من غدٍ؛ لأنه لو مات غداً يكون عليه ذنب الليل الذي سمر فيه على الأغاني، والمسلسلات، ونظر إلى النساء في السوق، ولعن وشتم وسب وسخط وعمل، فسجلت كل هذه السيئات عليه، ولهذا ذنوبه غداً أكثر من ذنوبه اليوم، فموته اليوم أفضل من غد، وموته غداً أفضل من بعد غد، وكلما زاد عمره زاد إثمه.

فقلت لهم هذا الكلام فتأثروا، وكان من فضل الله لهم أن عندهم استجابة وتأثر ثم تابوا، طبعاً المجموعة هم خمسة أنفار منهم واحد صالح والأربعة عاديون، لكنهم جاءوا إلى زيارتي وهو جلبهم، فكلهم أعلنوا التوبة وقالوا: كيف نفعل؟ فقلت لهم: أولاً: الأمر سهل، الماضي كله ما يكلف محو ذنوبه إلا أن تقولوا: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، هل فيها تعب يا إخواني؟ الماضي كله مهما عصيت، ومهما أجرمت، تمحوه كله بكلمة: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وهذه ليس فيها جهد، بل إن الله يغفر ذنبك كله ويبدله حسنات، ويسجل السيئات كلها كم؟ مليون سيئة، الله يقول: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].

هذا الماضي، وأما المستقبل الذي في علم الله ولا ندري عنه، نصلح كل المستقبل بأن ننوي فيه النية الحسنة، فننوي ألا نعصي الله أبداً، وهل في النية تعب؟ بعض الناس تقول له: يا أخي! انوِ خيراً وقل إن شاء الله، قال: والله لا أنوي، سبحان الله! لا تنوي حتى الخير؟! الآن لا يوجد تعب في النية، لا يوجد سوف أقوم أصلي أو سأجاهد أو سأعمل أي شيء، إنما أنوي بقلبي أني لا أعصي الله ولا أضيع فرائض الله في المستقبل، وهذه ليس فيها تعب، فالمستقبل والماضي ليس فيه تعب، وما الذي بقي؟ الحاضر، أجتهد فيه بأن لا أضيع فريضة الله ولا أقع في معصية الله، وهذه ليس فيها تعب، فإذا أذن قمت وأصلي، وإذا رأيت امرأة مسلمة فأغض بصري عنها، وإذا سمعت أغنية تسخط الله أغلقها أو أقوم من المكان الذي فيه هذا المنكر، إذا عرض علي الحرام لا آخذه، إذا قيل لي: امش في الباطل، لا أمشي فيه فهل في هذه الأعمال تعب؟ والله إنها سهلة يا إخواني! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه).

فقلت لهم هذا الكلام ومن فضل الله قالوا: دلنا على كتاب. فدللتهم على كتاب الكبائر للإمام الذهبي، وكتاب آخر اسمه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـابن القيم ، وقيمته قيمة كيلو من العنب، الكيلو العنب بثمانية ريالات والكتاب بستة ريالات، ويمكن شراء هذا الكتاب في نزهة اليوم، بدلاً من أن تتنزه كل يوم بخمسة ريال أو بعشرة.

يمكن أن تصوم هذا اليوم وتأخذ بهذا المبلغ كتاباً، وهذا أول كتاب -حقيقة- اقتنيته في حياتي، وهو الكتاب الذي قلب حياتي رأساً على عقب، كتاب الكبائر ، لكن اقرأه بقلب مفتوح وبنية العمل، فيه (67) كبيرة، والكبيرة الأولى: الشرك بالله، والثانية: السحر، والثالثة: قتل النفس، والرابعة: ترك الصلاة، وكل كبيرة تمر عليها تتوب إلى الله منها، فما تنتهي من آخر الكتاب إلا وأنت مسلم حقاً إن شاء الله.

فهؤلاء الشباب أعطيت لهم كتباً وخرجوا من عندي تائبين، وبعد ثلاثة أيام ذهبوا إلى مكة ووقع لهم حادث ومات أحدهم وقد أخبروني بعد ذلك لما جاءوا وهم يبكون، يقولون: والله الذي لا إله إلا هو -كان هذا بعد العمرة، فهم ذهبوا للعمرة ورجعوا- إن صاحبنا كان يطوف بالبيت وهو يقول: أستغفر الله ويبكي من خشية الله، وكان آخر حياته أنه مات إن شاء الله شهيداً، نسأل الله أن يسكنه فسيح جناته.

حسناً.. ماذا خسر هذا؟ يا إخواني! الإيمان والهداية هي البديل الصالح لهذه الحياة، وهي الخيار الأنسب، أما الكفر والضلال فليس بخيار ولا بديل صالح، فالكفر خسارة، إنك بالإيمان تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً، وإنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً.

بالله والدين والإيمان والهداية ماذا تخسر؟ تخسر الزنا! وهل الزنا مكسب؟ تخسر الربا! وهل الربا مكسب؟ تخسر العقوق! وهل العقوق مكسب؟ تخسر الفجور والكذب والغش والمماطلة وكل رذيلة، وخسارتك للرذائل كرامة، لكن تكسب ماذا؟ تكسب العزة والصدق والوفاء والأمانة والمروءة والشهامة والعفة، وتكسب كل شيء؛ لأن الدين يبني فيك كل هذه الفضائل، فأنت بالإيمان والهداية تكسب كل شيء ولا تخسر شيئاً مهماً، ولكنك بالضلال والكفر تخسر كل شيء ولا تكسب شيئاً مهماً، ماذا تكسب؟ هؤلاء العصاة والفسقة ماذا يكسبون؟ يذهب الواحد منهم (يعربد) شكله مقلوب، (غترته) على رقبته مثل المجنون، وله أحذية لا يدخلها في رجله بل يدخل فقط رأس أصابعه ويخبط الشارع مثل المجنون، يأتي إلي بيته ويرمي بنفسه على سريره أو على فراشه مثل الثور أو الحمار .. فهل هذه حياة؟ هل هذه إنسانية؟ لا يعرف الله، ولا كتاب الله، ولا بيوت الله، ولا فرائض الله، بل يعرف المقاهي والزنا والنساء والغناء والفجور والدعارة .. هل هذه حياة كريمة يا عباد الله؟ والله هذه حياة لا تقبلها حتى الحيوانات، والله إن الحمير لتأنفها ولا ترضاها، فكيف بالإنسانية المكرمة؟

أحدهم اسمه باسكال -فيلسوف غربي- يقول: إنك بالإيمان رابح في كل حال. وأبو العلاء المعري يقول:

زعم المنجم والطبيب كلاهما>>>>>لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر>>>>>أو صح قولي فالخسار عليكما

(إن صح قولكما) يقول: إن صح قولكم أنه ما هناك بعث (فلست بخاسر) ماذا خسرت بالدين؟ ولا شيء، بل كسبت كل شيء (أو صح قولي) الذي بعد (فالخسار عليكما).

يقول الله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ويقول: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف:83] ويقول تبارك وتعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] من الذي يقول: لا والله لا إياب إلى الله؟ هل هناك أحد يستطيع أن يمتنع عن الله؟ فإذا كان هناك أحد فلا مانع له من أن يعصي الله؛ لأن الله لا يقدر عليه، لكن من الذي يستطيع أن يفلت من قبضة الله؟ لا ملك ولا أمير، ولا قوي عضلات ولا تاجر ثري بالأموال يستطيع .. الأمير والمأمور، والملك والمملوك، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والمتعلم والجاهل، كل من على وجه البسيطة يأخذهم الله: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] ثم ماذا؟ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:26] فأنت لا تأتِ ووجهك أسود، ولا تأت ويمينك سوداء، ولا تأت وصحيفتك سوداء فيسود وجهك يوم القيامة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتندم ندامة ما بعدها ندامة.

أنت إذا اشتريت سلعة من السوق، ولتكن (غترة) اشتريتها بأربعين ريالاً من دكان، وذهبت إلى الدكان الثاني فلقيتها بثلاثين ريالاً، ما رأيك؟ أتندم أو لا تندم؟ تندم، تقول: كيف هذا الكلام؟! أنا ليس عندي رجولة، لست رجلاً؟ مباشرة أشتري من أول دكان وبأول سعر أدفع، لو طفت السوق كله حتى أشتري بأقل سعر لأجل عشرة ريالات، يأتيك غبن، لكن يوم القيامة سماه الله يوم التغابن، عندما تجد نفسك أنك ذاهب إلى النار من بعيد والناس ذاهبون إلى الجنة، فتقول: كيف ضيعت حياتي؟ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27].

ورد في الآية أن الظالم يوم القيامة والعاصي يعض يده، أنت الآن إذا تندمت ماذا تصنع؟ تعض إصبعك فقط، لكن يوم القيامة يقول الله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ [الفرقان:27] على ماذا؟ على يديه، لا يعض على إصبعه ولا رأس أنامله، بل على يديه كلتيهما، يقول: يأكل الظالم يده حتى ينتهي إلى كتفه وهو يأكلها، ثم ينتقل إلى شماله فيأكلها حتى ينتهي إلى منكبه، فلا ينتهي منها إلا وقد أنبت الله هذه فيأكلها يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] يعني: زميله الذي أضله لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:29].

فيا أخي! لا تعض أصابع الندم يوم القيامة، والله ما لك صبر على النار لحظة واحدة، وإذا كنت يا أخي تقدر على النار فجرب، خذ جمرة وضعها في إصبعك قليلاً، خذ لك (فنجاناً) من (شاي) حار من (الكافتيريا) واشربه مباشرة، ترى كيف يحرق فمك ومعدتك ويحدث لك مشاكل، حسناً كيف تصبر على الماء الحميم والله يقول: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] ويقول: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:67] هل تعرفون ما هو الشوب؟ شوب: عندما تغلي ماء، فإذا أغليته فما يطلع مع الغليان من فوق فهو الشوب، وهذا هو الأكثر حرارة، وهو شراب أهل النار ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:67] والطعام ماذا؟

الطعام زقوم وضريع وغسلين وقيح ودم وصديد ونار وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:21] وبعد ذلك تبدل الجلود في كل يوم أربعمائة مرة كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56] لماذا؟ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] لأن العذاب ما يحس به إلا في الجلد، وهذه آية من آيات الله، لما تضرب إبرة في الوريد أول الوخزة تحس بها، لكن عندما تُدخل إلى الداخل ينتهي الألم فلا تحس بعد ذلك، فمراكز الإحساس بالألم موجودة في الجلد، حتى إذا تعرض الجلد لألم تحس به، فالله جعل المراكز في الجلد، فلو ذهب جلدك لا تحس بالألم، فأهل النار لو أحرقت جلودهم، فلا معنى بعد ذلك للعذاب فالله قال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] جلد الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام، وله سبعة جلود وليس جلد واحد، ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وتبدل هذه الجلود كل يوم أربعمائة مرة، لماذا؟ من شدة الإحراق والنار، وتضيع هذه كلها، وتورط نفسك فيها بسبب معصية خفيفة؟ وتضيع المعين: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) للمؤمن في الجنة (72) زوجة، (2) من نساء الدنيا و(70) من الحوريات الذي يقول الله فيهن: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً [الواقعة:35-37] يعني: متحببات أَتْرَاباً [الواقعة:37] في سن واحدة، وبعد ذلك قال: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] وقال: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49] وقال: كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:23] زوجة مثل اللؤلؤة كيف وضعها؟! وبعد ذلك إذا أردت أن ترى نفسك لا تنظر في المرآة، بل انظر في صدرها ترى نفسك، وكبدك مرآتها، (عليها سبعين حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل؛ لو خرجت على أهل الأرض كلهم لآمن من على وجه الأرض كلهم بالله الواحد القيوم، ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما عليها) تجلس عند كل واحدة نصف نهار من أيام الآخرة يعني قدر خمسمائة سنة من سنين الدنيا، فبالله عليك تضيع هذا كله في ستين أو سبعين سنة؟ وربما تموت وما أكملت ثلاثين سنة؟!

وصايا للثبات على الاستقامة

يا إخوتي في الله! وصيتي لنفسي ولكم بتقوى الله والعودة إلى الله والرجعة بالتوبة النصوح من الذنوب كبيرها وصغيرها، والاستقامة على الدين، وأوصيكم بأربع وصايا تحفظ لكم الدين:

أولاً: اجعلوا لكم وقتاً مع كتاب الله لأنه الشفاء لما في الصدور، ومفهوم هذا الدرس أنه لا بد أن يكون لك في كل يوم ورد معين وحزب من القرآن الكريم تقرأه، كما لك ورد في طعام الفطور والغذاء والعشاء، يجب أن يكون لك ورد من القرآن تغذي به قلبك، تقرأه وتفهمه وتعرف تفسيره.

ثانياً: يجب أن يكون لك درس معين من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليكن في كل يوم حديث واحد، وأحسن كتاب أدلكم على قراءته رياض الصالحين.

ثالثاً: يجب أن يكون لك رفيق صالح، فتعرَّف على رفيق صالح وارتبط به ارتباطاً إيمانياً من أجل أن يعينك على السير في هذا الطريق.

رابعاً: يجب أن تحرص كل الحرص على الابتعاد من قرين السوء؛ لأن قرين السوء مريض، ولو رأيت شخصاً عنده (جدري) فهل تجلس معه؟ ولو رأيت شخصاً عنده (سل) فهل تأكل معه؟ أو شخصاً عنده (إيدز) أو (سرطان) فهل تشرد منه؟ وهذا صحيح، لكن إن كان عنده (كوليرا) في عقيدته أو (سرطان) في دينه أو (إيدز) في إيمانه، فهذا والله أولى أن تبتعد منه؛ لأنه يهلكك في الدنيا والآخرة، الذي يزين لك المعصية ويشوه لك الطاعة، لك رفيق يمشي معك فأذن المؤذن فقلت: يا أخي! دعنا نصلي. قال: يا رجل ليس الآن وقت الصلاة، يقول المطاوعة: إن تأخير العشاء أفضل. في هذه الفتوى أفتاه إبليس، يقول: يقولون: إنه كلما تأخرت العشاء كان أفضل، دعنا نسمر الآن، وبعد ذلك إذا جاء آخر الليل صلينا .. فهذا شيطان رجيم فابتعد منه.

مررت أنت وهو في الشارع وأخذ ينظر إلى امرأة لا تحل له وعندما قلت له: يا أخي اتق الله، (من ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم)، قال: يا شيخ! لا تعقد نفسك إنهم يسمون الدين تعقيداً! فالذي ليس متدين متروكاً، والذي يسمونه معقداً أحسن من المتروك، الإنسان المعقد -الذي عنده عقدة- أحسن من ذلك المتروك السائب، الذي ما له دين ولا مبدأ ولا اتجاه إلا أنه عبد لهواه وشهواته وشيطانه، قال: هذا تعقيد، قل: لا والله يا أخي، أنا لا أعقد نفسي، ولكني أصونها وأحفظها، وأغض طرفي خوفاً من ربي، وابتغاء ما عند الله عز وجل، أنا لست عبد شهوتي، ولست عبد هواي، وأحقر شيء عندي هو الجنس. إن من الرجال من هو عبد لجنسه، تراه فقط مثل الكلب يتلصص على محارم الناس، لماذا؟ لأن الجنس سيطر عليه، أي: أهلكه؛ فهو يتصرف في مجال الجنس فقط، مثل الحمار إذا رأى حمارة، هل الحمار عنده عقل حتى يغض بصره، ألا تراه يحرك مسامعه هكذا ويحرك ذيله وينهق وراء الحمارة؟ هذا مثل ذاك، لا يعرف خلقاً ولا يعرف ديناً ولا مروءة، إذا نظر إليها لحق وراءها، ومن دكان إلى دكان، ومن معرض إلى معرض، مثل الحمار هذا على اثنتين وذاك على أربع، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

فاحذر يا أخي، هذه أربع أعيدها: اجعل لك من القرآن ورداً، ومن الحديث حديثاً واحداً، واحرص على رفيق الخير، وابتعد عن رفيق الشر.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من عباد الله الصالحين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

وأشكر أولاً أسرة المدرسة مديراً مدرسين، وأشكركم كأبناء وإخوة وزملاء على إتاحة هذه الفرصة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما قلنا وما سمعنا، وأن يكون ما قلت أنا وما سمعتم أنتم حجة لنا يوم القيامة لا حجة علينا؛ لأن هذا الكلام عهدة عليَّ أنا، فالله سيسألني هل أنا أعمل بما أقول، وعهدة عليكم فالله سيسألكم يوم القيامة هل عملتم بما سمعتم، أو يدخل الكلام من هنا ويخرج من هنا مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] (يا عبادي إنما هي أعمالكم -كما يقول الله عز وجل- أحصيها عليكم بالليل والنهار، ثم أوفيكم إياها يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بارك الله فيكم، وجزاكم الله خير الجزاء.

الأسئلة

أدلة إثبات وجود الله

السؤال: أراد رجل نصراني أن يؤمن بالله مقابل أن تثبت له -كمسلم- أن الله موجود، فكيف يتم إثبات وجوده سبحانه؟

الجواب: هذا السؤال مهم وسأجيب عليه، أما الباقي فأظن أن الوقت يطول.

وسأحكي لكم مناظرة بين مسلم وملحد، فافهموا وركزوا قليلاً، فأنتم على باب الجامعة، ويجب أن تدركوا هذا، فكثير من الشباب في الثانوية يكثر من الهزل والضحك والمزاح، ويعيش بعقلية المتوسط، ومرحلة المتوسط يسمونها في التربية: مرحلة المراهقة، والمراهقة تعني: الخبال، والسفه، لكن لم يعد هنا مراهقة، فأنت الآن في مرحلة الرجولة فيجب عليك أن تودع تلك المرحلة المتوسطة بمرحلتها، وتدخل الثانوية بعقلية الرجال، وبحياة الرجال، ولا تدع للهزل ولا للمزاح واللعب ولا الفوضى مجالاً في حياتك، وابق مجداً دائماً، صادقاً.

أريدكم أن تفكروا معي في هذا الموضوع وأن تركزوا بعقلية الرجال.

تناظر اثنان: ملحد ومسلم.

فقال المسلم للملحد: لماذا لا تؤمن بالله؟

قال: لأنه غير موجود.

قال: وكيف عرفت أنه غير موجود؟

قال: لأنني لم أره.

قال: حسناً.

وكان أمامهم كوب زجاجي فيه ماء، فسكب الماء.

ثم قال: من سكب الماء هذا؟

قال: أنت.

قال: ألا يمكن أن يكون الماء انسكب بنفسه؟

قال: لا، مستحيل.

قال: حسناً، من صنع هذه الزجاجة؟

قال: المصنع.

قال: ألا يمكن أن تصنع الزجاجة نفسها بنفسها؟

قال: مستحيل، لا بد أن يكون لها صانع.

قال: حسناً، فمن صنعني وصنعك؟ ألا يمكن أن نصنع أنفسنا بأنفسنا؟

قال: مستحيل، لا بدلنا من خالق.

قال: حسناً، الخالق هو الله.

قال: قلت لك: إنني لا أراه، فالعقدة عنده الرؤية.

فقال هذا المسلم -واسمه حسن: يا فلان -ينادي الكافر واسمه قبيح -! أنا أمامك الآن، لو حصل لي حادث مروري وترتب على هذا الحادث أن بترت يدي، ماذا أبقى في نظرك؟ حسن أو أصير عمر؟

قال: لا، تبقى حسن.

قال: إذاً بعدما ذهبت يدي وركبت السيارة مع أحد زملائي -ولم أعد أسوق السيارة - ثم حدث لي حادث آخر وبترت قدماي الاثنتين فماذا تنظر إلي؟ هل أنا حسن ، أم أصير شخصاً آخر؟

قال: لا، ستبقى حسناً.

قال: وبعد فترة درست وكنت آتي إلى السيارة بالمقعد وأنا ذاهب مع زميل لي فحدث لي حادث، وترتب على هذا الحادث أن بترت يدي الثانية وانكسر ظهري، وفقدت حاسة السمع وحاسة الشم، وما بقي عندي شيء إلا الروح تصعد وتنزل، فماذا يسميني الناس: حسناً أو عمر أو علي، رغم أني فقدت كل حواسي وكل إمكاناتي؟

قال: لا، ستبقى حسناً رغم ذلك.

قال: فأنا حسن لشيء في ذاتي ليس ليدي ولا لرجلي ولا لحاستي ولا لسمعي ولا لبصري، وإنما لشيء داخلي.

قال: نعم، أنت حسن ، اسمك حسن بشيء في داخلك.

قال: ما هو هذا الشيء الذي بداخلي؟

قال: الروح.

قال: نعم، أنا حسن ما دامت الروح فيَّ، فإذا خرجت الروح ماذا أصير؟ لم أبق حسناً ، ماذا يسموني؟ يسموني جنازة فيقولون: مرت الجنازة ولا يقولون: مر حسن ، لو مشى برجله يقولون: مر حسن ، لكن إذا مر وهو محمول قالوا: مرت جنازة فلان، المرحوم، أو الهالك، أو الميت، أو الجنازة، وبعد ذلك أنا حسن وأنا في بيتي لي قيمة، ولكن عندما تخرج روحي في تلك الليلة، ولا يستطيع أهلي أن يدفنوني في الليل، هل يستطيع منهم واحد أن ينام معي في الغرفة التي وضعت فيها وأنا ميت؟ لا يستطيعون. لماذا؟ فيها وحشة، قال: والله لا أقدر أن أرقد بجانب الميت، من يستطيع أن يرقد مع الأموات؟ حسناً: أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا منكم! لكنك ميت، إذاً: لو رد الله عليَّ روحي بعد قليل من الموت وناديتهم: يا جماعة.. أبشركم أني عشت. ماذا يصنعون؟ هل يذهبون بي ليدفنونني؟ أم يحتفلون بي، ويفرحون؟ لماذا؟ لأن حسناً جاء، أين هو حسن؟ هل حسن هو الهيكل أم الروح؟ بل الروح، إذاً أنا حسن ولي قيمة بالروح.

قال: نعم.

قال: إذاً أين الروح؟ وهنا الشاهد، أين روحك؟ هل تراها؟

قال: لا.

قال: أهي موجودة فيك؟

قال: نعم موجودة.

قال: أريد أن أراها وإلا فأنت لست موجوداً، أحد أمرين: إما أن تثبت أن فيك روحاً وأنك موجود، أو أنه ليس فيك روح وأنك لست موجوداً، ثم إذا لم تكن موجوداً فأنت عدم، وإذا كنت عدماً فكيف أتكلم مع العدم؟

فقال ذاك: نعم، الروح موجودة وأنا لا أراها.

قال: إذاً وجود الروح وأنت لا تراها دليل على وجود الله وأنت لا تراه، ولهذا يقول الله عز وجل: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] يعني: أن الروح دليل على أمر الله، ولو كانت الروح شيئاً مادياً لا كتشفوها.

في أمريكا باحث علمي أتى برجل أوشك أن يفارق الحياة ووضعه في صندوق زجاجي، وأجرى له وسائل الحياة من هواء وغيرها، وجعل يرصد كل الأجسام التي تدخل عليه، وبعد ذلك مات الإنسان دون أن يرى شيئاً داخل الصندوق ولا حتى كسر الصندوق.

لقد استطاعوا في الطب الحديث أن ينقلوا أعضاءً من إنسان إلى إنسان إذا مات، الآن عملية نقل القلوب، رجل عنده قلب فاسد، لا يصلح، وسوف يموت، فأتوا بشخص آخر على وشك الموت فأخذوا قلبه، وهو صالح لماذا لم يشتغل في ذلك؟ لأن الروح ليست موجودة، أجل الحياة ليست في القلب بل في الروح، فلما ذهبت الروح لم يعد القلب يشتغل، أتينا بهذا القلب الذي لا يشتغل هناك وركبناه في واحد فيه روح فاشتغل قلبه.

نأتي إلى الكلية، بمجرد أن يموت الإنسان تقف الكلية، نقوم بأخذ الكلية من هذا الذي سوف يموت ونشغلها فنضعها فيمن فيه روح فتشتغل، لماذا وقفت هناك واشتغلت هنا؟ وقفت هنا؛ لأن الذي كانت تشتغل فيه خرجت روحه فتوقفت.

الآن عندما ينام الواحد تأتي بالأجسام أمام عينه، تفتح عينه وتضع أمامه لوناً أحمر وأصفر وأخضر لا يرى، تتكلم عند أذنه بصوت خفيف لا يسمع، تضع الطيب عند أنفه لا يشم؛ رغم أن حاسة الشم موجودة عنده، وحاسة العين موجودة، وحاسة الأذن موجودة لكنه لا يسمع ولا يشم ولا يرى، لماذا؟ لأنه نائم، وليس الأنف هو الذي يشم في حقيقة الأمر فالذي يشم هو الروح، أين الروح؟ الروح ليست موجودة بجسمه الآن، هي في إجازة قريبة، تريدها أن ترجع أيقظه: فلان، فلان! استيقظ، أين كان هذا؟ كان نائماً، عندما استيقظ أصبح يميز الرائحة واللون والصوت! وعندما كان نائماً لم يميز شيئاً؛ لأن روحه غير موجودة.

والروح لها خروجان من الجسم، خروج مؤقت تحت الاستدعاء وهو النوم، وخروج نهائي -فصل من الوظيفة- وهو الموت، وبعد ذلك هناك إعادة، متى الإعادة؟ بعد الموت، تأتي الروح فترجع إلى الجسد للحساب، سؤال وجواب ماذا فعلت؟ وماذا عملت؟ إن نجحت فجنة، وإن سقطت فنار.

فوجود هذا النصراني ووجود الروح فيه دليل على وجود الله، مفهوم هذا الكلام يا إخوان؟ فإذا قال هو: لا. الروح فيَّ وأنا لا أراها، فأنا لست مؤمناً بوجودي. إذاً ما دام أنك غير موجود فأنا لا أتناقش مع العدم، هل تناقش عدماً؟ فإما أن تؤمن بأنك موجود وأن الروح موجودة فيك، وأن إيمانك بوجود الروح يلزمك بالإيمان بالله عز وجل وإلا فلا نقاش معك.

التوبة الصادقة تحول بينك وبين المعاصي

السؤال: شخص يريد التوبة والجنة، ويشكو أنه يرتكب العادة السرية، وعند الانتهاء منها يشعر بالذنب ويريد التوبة، ولكن ما يلبث أن يقع في ذنب العادة السرية فماذا يفعل ليتخلص منها بارك الله فيكم؟

الجواب: اسم العادة السرية هذا اسم حديث، لتغيير حقائق الأشياء القبيحة في حياة الأمة، وهذه من علامات الساعة: أن تمارس المحرمات بأسماء مستحدثة، فيسمون الزنا علاقات جنسية، ويسمون الربا فوائد بنكية، ويسمون الخمور مشروبات روحية، ويسمون السحر ألعاباً (بهلوانية) (والبهلوان) هذا يضع السيخ في عينه، وهو ساحر كذاب، والله لو آخذ عوداً فقط لأخرجت به عينه، لكنه يضع سيخاً من حبل ويضع السيخ وهو حبل في عينه وهو في الحقيقة رجل وتمشي السيارة من فوق ظهره ولا شيء فوق ظهره، دجال كذاب، لكي يعطيه الناس أموالهم. تجد السيارة تمشي من على الحجر وتفتتها، وهذا الذي صدره من عظم ولحم تمشي من فوقه؟! ما هذا الكلام؟! ولهذا شخص من الناس جاء إليه شخص -من الموحدين- وهو يأخذ السيخ ويضعه على عينه؛ فينعوج السيخ فقال له: تعال أدخل إصبعي فقط -ولا داعي للسيخ- قال: لا، قال: أرأيت أنك كذاب. لا تتحمل إصبعي وتتحمل السيخ؟!!

فتراهم يغيرون الأسماء لكي تلتبس على الناس، هذه اسمها -العادة السرية- في الشرع ناكح يده، وناكح يده ملعون، لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة من ضمنهم: (ولعن الله ناكح يده)، وفي أثر: [أنه يأتي يوم القيامة ويده حبلى له فيها ثلاثمائة ولد] يسحبها ويده حبلى، الناس مستورون، أيديهم بيض ويد هذا زانية، مليئة، فيها أولاد وبنات وقد كبروا، وكيف يسحبها يوم القيامة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!

والطب الحديث يقرر أنها مرض، وتفتك بالإنسان فتكاً عنيفاً؛ لعدة أسباب منها:

أولاً: ترهقه؛ لأنها تيسر له عملية ممارسة الجنس في كل لحظة، وليس لها ثمرة، ولا بجانبه امرأة ولا أموال ولا شيء إلا يده شغال ليل نهار.

ثانياً: أنها ترهق العضو التناسلي وتؤدي إلى تمزيق خلاياه.

ثالثاً: أنها تسبب للإنسان أمراضاً في البروستات والجهاز التناسلي، وتجعله غير قادر على مباشرة الحياة الجنسية إذا تزوج.

وأيضاً تسبب له العقم؛ لأن الحيوانات المنوية التي يفرزها باستمرار أيام اكتمال بنوته وشبابه تقلل من رصيده من الإمكانات وبالتالي إذا تزوج -ربما- لا ينجب؛ لأنه قد أنجب في يده.

نعم. فالعادة السرية حرام في الشرع، وهناك فتوى من هيئة كبار العلماء بحرمتها، وأنها أخت الزنا، وعلى المسلم أن يتوب إلى الله منها.

وهذا الأخ الذي عنده دافع للتوبة ويريد أن يتوب لكنه بعدما يتوب تغلبه نفسه فيعملها، ثم يشعر بالندم.. شعوره بالندم بعد ذلك دليل على أن قلبه لا يزال حياً، وكلما زلت به القدم فعليه أن يتوب، لكن يجب أن يتوب توبة الصادقين الرجال، أما أن يتوب وفي نيته أن يعود فهذا يكذب على نفسه، فالتائب من الذنب والعائد له كالمستهزئ بالله عز وجل، لكن لو تبت وصبرت وجالدت ثم في لحظة من اللحظات ضعفت وغلبتك نفسك ووقعت في خطيئة من الخطايا، فإنه يلزمك فوراً التوبة، ويلزمك التوبة بقوة، أقوى من التوبة الأولى؛ لأن توبتك الأولى ضعيفة لم تمنعك من المعصية، فيجب أن تكون توبتك الثانية قوية تستطيع أن تحول بينك وبين المعصية، وليس لك وسيلة إلا التوبة، وتوبة الصادقين.

شروط التوبة النصوح

السؤال: ما هي شروط التوبة النصوح؟

الجواب: أما شروط التوبة فهي أربعة:

أولاً: الإقلاع عن الذنب. أي: أن تترك الذنب، لا أن تتوب وأنت ما زلت تسمع الأغاني، بل تقلع.

ثانياً: الندم على ما فات، فلا تتمدح بالماضي، والله أنا كنت عازفاً وكنت هاوياً -هاوي: يعني منتكس- قال: والله فلان هوى، الآن ركن الهواة، الهالك مع الهالك، فأنت لا تتمدح بالماضي تقول: كنت أغني أو كنت أعزف. لا، قل: الحمد لله الذي عافاني, الندم على ما فات.

ثالثاً: العزم أي: التصميم على عدم العودة مستقبلاً بأي حال من الأحوال، هذه اسمها التوبة النصوح، لأنه توجد توبة نصوحة وتوبة كذب، فالتوبة النصوح هي التي تتوفر فيها أربعة شروط، الثلاثة الأولى: أن يقلع، ويندم، ويعزم على ألا يعود.

وإذا كانت التوبة من حق متعلق بآدمي، فالرابع: أن ترد الحق إلى صاحبه، فإذا سرقت مالاً على شخص فترجعه له، أو أخذت عليه شيئاً فترده عليه، تستسمح منه، أما إذا كان الذنب متعلقاً بالله عز وجل فالثلاثة الأولى: أن تقلع، وتندم، وتعزم على ألا تعود إن شاء الله.

أمور تعين على الخشوع في الصلاة

السؤال: كيف يخشع المصلي في صلاته؟

الجواب: أذكر لكم قصة أحد السلف واسمه حاتم الأصم ؛ من خيار السلف، كان أخشع عباد الله، ولما سئل عن الخشوع: كيف تخشع في صلاتك؟ فأجاب إذا أردت أن أصلي وسمعت نداء ربي، قمت إلى وضوئي، ثم أقبلت على مصلاي -يعني المسجد- فأكبر في تحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأجلس في طمأنينة، وأتصور أن الجنة عن يميني، وأن النار عن يساري، وأن ملك الموت خلف ظهري، وأن الصراط تحت قدمي، وأن الكعبة أمامي، ثم لا أدري بعد ذلك أقبلت صلاتي، أم ردت عليَّ.

انظروا كيفية صلاته: أول شيء يقول: أتهيأ لصلاتي، وأتوضأ، وآتي إلى مصلاي، ثم أقف بين يدي ربي فأتصور أن الكعبة أمامي، وأن الجنة عن يميني، وأن النار عن شمالي، وأن ملك الموت خلف ظهري -فقد تكون آخر صلاة أصليها- وأن الصراط تحت قدمي، ثم أكبر في تحقيق، وأقرأ في ترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأجلس في طمأنينة، ثم أسلم في رجاء -يعني: رجاء أن الله عز وجل يتقبل صلاتي- ولا أدري أقبلت صلاتي بعد هذا، أم ردت عليَّ.

هذا هو الخشوع، أن تستحضر عظمة الله، وتظن وأنت في الصلاة أنها آخر صلاة تؤديها.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حقيقة الإيمان [1، 2] للشيخ : سعيد بن مسفر

https://audio.islamweb.net