اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عظمة الخالق للشيخ : سعد البريك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: يتحدث الناس عن العظماء، ويتحدث الناس عن الزعماء، ويتحدث الناس عن أولي القوة والسطوة والعز والجبروت، ولكن كثيراً من الناس لا يفقهون ولا يعلمون ولا يدركون ما لله عز وجل من عظمة بالغة هي أولى وأحرى أن تذكر، وهي أولى وأحرى أن تسطر، وهي أجل وأعلى من أن يحيط بها علم عبد، ولكن العباد يتطاولون في هذا المقام؛ فما بلغوا فيها من الثناء على الله عز وجل والإخبات والانقياد والإذعان والتسليم له بمقدار ما أثنوا وأجابوا واستجابوا حمداً ومحمدة ومنزلة عظيمة.
إن الكلام عن عظمة الله -أيها الأحبة- كلام من عباد الله الفقراء عن ربهم الغني، وكلام من عباد الله الأذلاء عن ربهم العزيز، وحديث من عباد الله المساكين عن ربهم الجبار، وحديث من عباد الله أولي المسغبة والمسكنة والمتربة والذلة والفقر والحاجة والانكسار إلى الله عز وجل اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] إلى الله نور السماوات والأرض، إلى الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، إلى الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، إلى الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، إلى الله الذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، إلى الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24].
هو حديث من الضعفاء والأذلاء والفقراء عن ربهم الغني العزيز القوي الجبار المتكبر له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وإذا ضل الحادي في الصحراء، ومال الركب عن الطريق، وحارت القافلة في السير نادوا يا ألله!
وإذا وقعت المصيبة، وحلت النكبة، وجثمت الكارثة، نادى المصاب يا ألله!
وإذا أوصدت الأبواب، وأسدلت الستور في وجوه السائلين، صاحوا يا ألله!
وإذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وانقطعت الحبال، نادوا يا ألله!
إليه يصعد الكلم الطيب، والدعاء الخالص، والدمع البريء، والتفجع الواله.
إليه تمد الأكف في الثناء، والأيادي في الحاجات، والأعين في الملمات، والأسئلة في الحوادث!
باسمه وحده لا شريك له تشدو الألسن وتستغيث وتلهج وتنادي، وبذكره وحده لا شريك له تطمئن القلوب وتسكن الأرواح وتنادي يا ألله!
الله أحسن الأسماء، وأجمل الحروف، وأصدق العبارات، وأطيب الكلمات، هل تعلم له سمياً؟
الله هذا الاسم الكريم على الذات المقدسة التي نؤمن بها، ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا.
الله أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، أهل الحمد، وأهل التقوى والمغفرة لا نحصي ثناءً عليه، ولا نبلغ حقه توقيراً وإجلالاً، ولا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا رب العالمين!
لو أن البشر منذ كتب لهم تاريخ وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة نسوا الله أو كفروا به ما خدش ذلك شيئاً من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعاً من نوره، ولا غض بريقاً من كبريائه، فهو سبحانه أغنى بحوله وطَوله وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن يناله منه وهم واهم أو جهل جاهل.
هذه دعوة للتفكر والتأمل والتدبر في عظمة الله وفي خلق الله، وانظر إلى آثار رحمة الله، أدعوك إليها أخي المسلم لتعيش في آيات الله لتستشعر عظمة الله، في علمه وعظمة الله في قدرته، وعظمة الله في خلقه، وعظمة الله في حلمه، وعظمة الله في رحمته، وعظمة الله في قضائه وقدره، لتقف بنفسك على أسرار الكون وحكمة الله في كل صغير وكبير وتقول: يا سبحان الله!
آيات ربك في الآفاق بينة>>>>>فانظر إليها وغض الطرف واحتسم
سر في سناها وردد في بدائعها>>>>>جوى اشتياق بقلب خاشع وفم
تنام عنها وما نامت محاسنهـا>>>>>لو كنت تعلم معنى الحسن لم تنم
يا سائراً وهو يلهو في مسالكه>>>>>إن كنت ترجو لقاء الله فاستقم
إذا ما اتجه الفكر في السماوات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كل البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس من رهبة السكون الشامل وكان ثلث الليل الآخر، تنزل الجبار نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه: يا عبادي! هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأجيبه، وهل من تائب فأتوب عليه، حينئذٍ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، يتحول السكون إلى نظرات موحية تنبعث من كل صوب، حينها تتغنى النفس والروح الخاشعة لتقول: سبحان الله!
وإذا ما كان المتأمل على شاطئ البحر الخضم ذي الأمواج، وأرسلت الطرف بعيداً حيث اختلطت زرقة السماء بزرقة الأرض، وانحدرت شمس الأصيل رويداً رويداً؛ لتغيب في هذا البحر المالح الأجاج، وحيث تتهادى الفلك ذات الشراع الأبيض في حدود الأفق الملون بألوان الشفق كأنها طائر يسبح في النعيم؛ إذ ذاك يشعر المتأمل بعظمة واسعة دونها عظمة البحر الواسع، وإذ ذاك تقر العين باطمئنان الفلك الجاري على أديم الماء الممهد في رعاية الله الصمد، في رعاية الله صاحب العظمة والكبرياء، عندها تطمئن النفس لرؤية ما تطمئن إليه في منظر جميل، إذ ذاك يخفق الفؤاد ويدق دقات صداها في النفس تقول: يا سبحان الله!
وإذا ما اشتد السقم بمن أحاطت به عناية الأطباء، وسهر الأوفياء، ونام بين آمال المخلصين ودعوات المحبين، ثم ضعفت حيلة الطبيب ولم ينفع وفاء الحبيب، واستحال الرجاء إلى بلاء؛ إذ ذاك تتجلى عظمة الله والنفوس جازعة، والنواصي خاشعة، والقلوب واجفة، والأيدي راجفة لتقول: أنا قضيت، ويقول الطبيب والقريب والحبيب: لك الأمر يا ألله فسبحان الله!
وإذا بالإنسان ينظر إلى المال فيلقاه فانياً، وإلى الجاه فيلقها ذاوياً، وإلى الأماني فيلقاها زائلة، وإلى الآمال فيجدها باطلة، وإلى الشهوات فيجدها خادعة كاذبة، وإلى المسرات فيجدها آفلة غاربة؛ إذ ذاك يستغني عن الجاه والمال، وتشلُّ في نفسه حركة الآمال بين جاه يدول وأمل يزول؛ عندئذ لا يملأ فراغ النفس إلا ذكره سبحانه، فتقول سبحان الله! سبحان الله فيما يمس النفس من مظاهر العظمة والسعة والرحمة والقدرة والقضاء.
تقول سبحانك اللهم أنت العظيم وأنت الواسع الرحيم، وأنت القادر الدائم، وأنت الجميل والجليل، سبحانك أنت وحدك لا إله إلا أنت.
يقول سبحانه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
هل فكرت في هذه الكواكب السيارة التي تملأ الفضاء، والتي تلتزم مداراً واحداً لا تنحرف عنه يميناً ولا شمالاً، هذه الكواكب تلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبداً.
إن الكرة تنطلق من أقدام اللاعبين ثم لا تلبث أن تهوي بعد تحليق، أما هذه الكرات الكواكب الغليظة الكبيرة الحجم المضيء منها والمعتم هي معلقة في السماء لا تسقط، سائرة لا تقف، كل واحد منها في دائرة لا يعدوها، قد يصطدم المشاة والركبان على الأرض وهم أصحاب بصر وعقل، أما هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
من الذي هيمن على نظام هذه الكواكب؟
ومن الذي أشرف على مدارها؟
بل من الذي أمسك بأجرامها الهائلة ودفعها تجري بهذه القوة الفائقة؟
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر:41].
أما كلمة الجاذبية وتفسير بعض المتأخرين إذا سألوا عن كوكب أو عن أمر أو عن شيء من بديع صنع الله ومن أسرار خلق الله ومن دقيق إعجاز الله قالوا: إنها الجاذبية، لم يقولوا: إنها قدرة الله، ولم يقولوا: إنها قوة الله، ولم يقولوا: إنها حكمة الله، لكنهم يقولون: إنها الجاذبية.
والجاذبية كلمة دلالتها كدلالة أهل الرياضيات حينما يقولون سين عن المجهول رمز لقوانين يجهلونها، لكن الحقيقة تقول: إن هذه الكواكب رمز لقوانين تصرخ أنها من صنع الله وباسم الله، ولكن الصم لا يسمعون.
إذا رأيت البشر يموج بعضهم في بعض، ينفعلون بالحب والبغض والفرح والحزن، ينطلقون عاملين أو يهدءون نائمين فذلك بقدرة الله، وسواء شعرت أم لم تشعر فنبضات قلبك في حناياك، وسريان دمك في عروقك، وكمون الحس في أعصابك، وتجدد الحياة في خلاياك، وانسكاب الإفرازات من غددك، كل ذلك بقدرة الله، لا تحسبن شيئاً في الكون يقدر أو ينهض أو يقوم أو يسير بنفسه، بل كل ذلك بالله وبأمر الله ومن الله وإلى الله، فكما أن الله أبدعه أولاً من عدم فقد أودع فيه من أسرار قدرته وآثارها ما يدل عليه سبحانه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44].
الناس حينما يمشون في نفق بين الجبال يقولون: عجباً لهذه العقول التي استطاعت أن تفتت هذه الصخور، وإذا رأوا قطعة من صخر قد أزيحت عن الطريق قالوا: عجباً لهذه الآلات وصانعيها والمعدات وعامليها كيف زحزحت أطراف الجبال عن الأرض، ولكنهم ينسون أن الله عز وجل قال: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه:105-107] .. وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88].
إنهم يعجبون يوم أن يروا صخرة أزيحت عن الطريق أو نفقاً شق في جبل، لكنهم لا يعجبون في قول الله عز وجل: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات:10] ولا يعجبون من قول الله عز وجل: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:9].
نعم أيها الأحبة: إننا لنعجب من أمر يسير ثم نضل أو نذهل أو نغفل أو نتغافل عن أمر جليل، إن ثرية من الثريات التي تعلق في أسقف القصور أو الصالات الكبيرة بلغ من طولها وعرضها وضيائها مبلغاً وصفه الواصفون، وتحدث عنه المتحدثون، وإذا بالقنوات الفضائية والجرائد والمجلات والإذاعات ورجال الإعلام يتحدثون عن هذه الغريبة وهذه العجيبة، والشمس تشرق كل صباح عليهم تضيء الدنيا جميعاً، ثم تغيب ويبزغ قمر يطل على الكون كله فقلَّ أن ترى من يتدبر ويتفكر.
يدخل بعضهم ساحة أو صالة في قصر فيراها طويلة عريضة ليس فيها عمد، أو يرى قبة واحدة ليس بها أعمدة فيتحدث ويحدث الناس ويعجب من طول هذه القاعة وعرضها بلا عمد، ويعجب ويستغرب من استدارة هذه القبة بلا أعمدة، وقد نسي أن الله عز وجل رفع السماوات بغير عمد ترونها، فأي هذه أولى وأحق بالتدبر والتفكر.
إن الواحد يقف في مكتب من المكاتب أمام جهاز الحاسوب فيسأله هذا الموظف ما اسمك أو أعطني معلومة عنك إن رقماً أو اسماً أو اسم أم أو اسم أب ثم يودع اسمك أو رقمك في جهاز الحاسوب أو ما يسمى بالكمبيوتر، ثم يخرج عنك معلومات كاملة عن ولادتك ومنشأك ووظيفتك وراتبك وزواجك وطلاقك وعدد أولادك، بل هذا الجهاز يخبرك عن أسماء وآباء ورواتب وأحوال وأبناء ووفيات وأموات ومواليد مدينة بل دولة من الدول ثم تعجب وتقول: حاسب بهذا المقدار وشاشة بهذا الحجم تسرع وتعطينا هذه الأخبار، وتقدم هذه المعلومات، أي عجبٍ نرى، أي دهشة نحن فيها، ولكن الكثير ينسى أو يتناسى أو يجهل قول الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] يعجبون من الحاسب إذا قدم معلومات عن خمسة ملايين نسمة، لكنهم لا يتدبرون فيما جعله الله في الصحف والسجلات يوم القيامة، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
يعجب أحدهم ويقول: عجباً لهم لا ينسون، لا يغفلون، لا يفوت عليهم شيء، أراد أن ينقل استمارة سيارته، أراد أن يجدد رخصته، أراد أن ينقل كفالة عامله، فلما وقف عند الحاسب قيل له عليك مخالفة، وعليك غرامة، وعليك رسوم، وعليك كذا وكذا، فيعجب منهم كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف أحصوها ولم ينسوها، وقد جهل أو نسي أن الله عز وجل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] كل ذلك فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52].
الله عز وجل صفته العليم، العلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولم يلحقه نسيان.
والله عز وجل الحي القيوم! الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، ولا يمكن أن يكون في علم الله ما يخالف الحقيقة، علم الله محيط بالأمس واليوم والغد بالظاهر والباطن بالدنيا والآخرة، قد يعرف الإنسان شيئاً عن حاضره وقد يذكر طرفاً من ماضيه وما وراء ذلك، ولكن الواحد منا جاهل بمستقبله لا يعلم ما يغيب له بعد دقيقة أو ثانية، لكن الله وحده يحصي أعمالنا الماضية ساعة ساعة، ويسجل أحوال العالم الغابر دولة دولة، وحادثة حادثة، قال: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:51-52].
إنه علم يشرق على كل شيء، فيجلي بواطنه وخوافيه، ويكشف بداياته ونهاياته، يحيط بذاته وصفاته، فالشهود والغيب لديه سواء، والقريب والبعيد والقاصي والداني لديه سواء: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت:47] علم الله يشرف على كل شيء إشرافاً تاماً، ويهيمن على أطوار الموجودات ما يحس منها وما يتوهم، كل ذلك بعلم الله عز وجل، فعدد ما في صحاري الأرض من رمال، وما في بحار الدنيا من قطرات، وما في الأشجار من ورقات، وما في الأغصان من ثمار، وما في السنابل من حبوب، وما في الجبال من صخرات، وما في الصخور من ذرات، وما في رءوس البشر وجلودهم من شعر، ثم ما يمكن أن يطرأ على هذه الأعداد الكثيرة من أحوال شتى مما تحتاج إليه في وجودها من قوى متجددة، وما يعتريها من أوصاف متغايرة، كل ذلك يحيط به علم الله سبحانه.
علم الله سبحانه وتعالى الذي لا تبلغ عقولنا منه شيء: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14] أرواحنا هذه التي في أقفاص صدورنا، هذه التي في جنبات أبداننا، أرواحنا هذه التي نتحرك بها نحن لا نعلم عن كنهها شيئاً وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85].
نعم أيها الأحبة: إنه سمع الله عز وجل الذي لا يخفى عليه شيء قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] سبحانه ما تغيب عنه همسة وسط الضجيج، ولا تشتبه عليه لغة على اختلاف الألسنة، وهناك أصوات وأقوال يسمعها ويحبها (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) وكما يحب الله صوت الوحي تتلوه الألسنة فإن الله يكره صوت الفحش والسوء لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النساء:148].
وكما أن الله يسمع كل شيء فهو شهيد على كل شيء، ورؤيته تنظر في أعماق الظلمات فتستشف كوامنها، فليس الله بحاجة إلى ضياء يبصر به الخفي، أو مكبر يعظم به الدقيق، كيف يحتاج وهو الذي خلق الظلمة والضياء، وهو الذي خلق السر والعلانية، وهو الذي خلق القريب والبعيد سبحانه! إذ كنت ثالث ثلاثة فاعلم أن الله عز وجل يبصر ما تفعلون، ويسمع ما تقولون: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26] .. مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7].
عندما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون توجس موسى وهارون من طغيان فرعون خيفة: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] فقال سبحانه: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] إن الله معهما ومع كل كائن من بدء الخلق إلى قيام الساعة، وما قبل ذلك وما بعد ذلك يسمع ويرى وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61] الإحساس بهذه الحقيقة جزء من الدين .. بل هو قمة من قمم الدين ومرتبة من مراتب الدين والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الله ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
هل يستطيع أحد في العالم، هل يستطيع كيان أو قوة أو دولة أو منظمة أو جيش أو سلطة أن يقدم أو يدعي أو يزعم أنه أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟
لا وألف لا، إن الذي أعطى وهدى هو الله عز وجل، بهذا الكلام رد موسى كليم الله على فرعون عدو الله لما سأله فرعون بكل تجبر وطغيان، وهو في قرارة نفسه مؤمن بأن الذي أعطى، وأن الذي هدى، وأن الذي خلق هو الله، لكن كبرياءه وطغيانه وجبروته هي التي صدته أن يقر بذلك وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] ولذا قال موسى له: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102].
إن موسى عليه السلام رد على سؤال فرعون، هذا السؤال الممتلئ جحوداً وتكبراً وإنكاراً لما سأل فرعون من ربكما، ما تعريفه، ما آثاره، ما هي الدلائل القائمة على وحدانيته، ما هي البراهين الساطعة على ألوهيته؟ يريد أن يتجبر، يريد أن يتكبر وهو مخلوق من خلق الله، وهو لا يساوي ذرة في ملكوت الله عز وجل، فرد عليه موسى بما ألهمه الله من وحي فقال: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
هذه الآية تشمل عالم النبات والحيوان والإنسان والبر والبحر والأفلاك.
نعم أيها الأحبة! يقول الزمخشري لله دره من جواب: قال أحدهم: والله لقد تناوله موسى بصفعه على وجهه يعني: إن هذا الجواب المسكت صار كصفعة من يد موسى على خد فرعون، وتحت كل كلمة من هذا الجواب آيات وآيات ومعجزات باهرات، وتحت كلمة هدى مجلدات ومجلدات من الصور والأحكام.
يقول كريسي موريسون : إن النحلة لا يمكن أن تهتدي لتعود إلى خليتها ولتعود إلى مكانها بعد أن تطوف مسافات بعيدة لتمص وتمتص رحيق الأزهار، لا يمكن أن تعود إلا وقد استخدمت آلة لتحدد الطريق والاتجاهات. وسماها إريل، أي يقول: إن هذه النحلة تحتاج إلى إريل لتعلم أين مكانها وإلى أين تتجه.
إنه يقول ذلك لأنه جاهل، ولكن من يعرف الحقيقة يعلم أن الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .. هدى النحلة وقد ذهبت مكاناً بعيداً لتعود إلى مملكتها وإلى خليتها.
هل تعلمون أن النحل أول ما يخرج من الخلية نحلة واحدة -إن النحل منظم غاية التنظيم- ثم تبحث، فإذا وجدت حقلاً ومرتعاً يرتع فيه النحل لامتصاص الرحيق من الزهور عاد الرسول وعاد البشير، وعاد هذا المندوب إلى المملكة ليخبر بقية النحل في المملكة أنه يوجد مكان مليء بالأزهار في طريق كذا باتجاه كذا بانحراف كذا في بعد كذا في موقع كذا في ارتفاع كذا في انخفاض كذا، هل تعلمون كيف تتكلم النحلة مع بقية النحل، إن لها رقصة معينة، فترقص رقصة مستديرة ثم رقصة مثلثة ثم رقصة مستطيلة وتتحرك بهيئات وحركات يفهم النحل بهذه الحركات بهذه اللغة بهذه الإشارات بكل دقة أين يكمن وأين يوجد حقل الزهور، فتنطلق أسراب النحل إلى هذا المكان وفقاً للإشارات والرقصات والرسوم والحركات التي صورها ذلك الرسول من رسل النحل إلى مرتع الأزهار ليجدوا أنه ما ضل وما زاد وما بعد وما قصر وما ضل وما تاه أبداً.
من الذي علمه؟ ومن الذي فطره؟ ومن الذي هداه؟
الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى.
قل للطبيب تخطفته يد الـردى>>>>>من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجى وعوفي بعدما>>>>>عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة>>>>>من بالمنايا يا صحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفـرة>>>>>فهوى بها من ذا الذي أهواكا
بل سائل الأعمى خطى بين الزحام>>>>>بلا اصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولاً بـلا>>>>>راع ولا مرعى ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا>>>>>بعد الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه>>>>>فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو>>>>>تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت>>>>>>>>>>شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بين>>>>>دم وفرث ما الذي صفاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حنا>>>>>يا ميت فاسأله من أحياكا
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى>>>>>عن عيون الناس من أخفاك
قل للنبات يجف بعد تعهد>>>>>ورعاية من بالجفاف رماكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء يربو>>>>>وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشراً>>>>>أنواره فسأله من أسراكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي>>>>>أبعد كل شيء ما الذي أدناكا
قل للمرير من الثمار من الذي>>>>>بالمر من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى>>>>>فاسأله من يا نخل شق نواكا
وإذا رأيت النار شب لهيبهـا>>>>>فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً>>>>>قمم السحاب فسله من أرساكا
وإذا ترى صخراً تفجر بالميـاه>>>>>فسله من بالماء شق صفاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلال>>>>>جـرى فسله من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالملح الأجا>>>>>ج طغـى فسله من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجيـاً>>>>>فاسأله من يا ليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحياً>>>>>فاسأله من يا صبح صاغ ضحاكا
هذى عجائب طالما أخـذت بها>>>>>عيناك وانفتحت بها أذناكا
يا أيها الماء المهين من الذي>>>>>في ظلمة الأحشاء قد سواكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائماً>>>>>ومن الذي تنسى ولا ينساكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الـذي>>>>>بالله جل جلاله أغراكا
أتراك عيناً والعيون لها مـدى>>>>>ما جاوزته ولا مدى لمداكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني>>>>>في كل شيء أستبين علاكا
نعم أيها الأحبة.
فيا عجباً كيف يعصى الإلـه>>>>>أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آيـة>>>>>تدل على أنه الواحد
كان السلف يعرفون من قول الله تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] يعلمون ويظنون أن الأرض تخضر وتثمر وتزهر إذا نزل عليها الماء، ثم تقدم العلم واكتشف أهل علم النبات أن الإنسان إذا وضع الحب في الأرض اليابسة لا ينبت الزرع حتى تهتز الأرض درجة واحدة من درجات جهاز رختر، فتنصدع قشرة الحبة فثبت بإذن الله عز وجل، فالله يخبر بذلك قبل ما اكتشفوه وقبل ما أخبروا به قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.
نعم أيها الأحبة: أإله مع الله؟ أإله مع الله يخلق؟ أإله مع الله يدبر؟ أإله مع الله يأمر؟ أإله مع الله ينهى؟ أإله مع الله يشرع؟ أإله مع الله يخلق من عدم؟ أإله مع الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؟ أإله مع الله يعطي الملك ويسلب الملك؟ أإله مع الله يخفض أقواماً ويرفع آخرين؟ أإله مع الله يبسط ويقدر؟ أإله مع الله يحي ويميت؟!
لا وألف لا، سبحان الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
لقد عرف السلف قول الله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] قالوا: إن ذلك إشارة إلى أماكن النجوم، ثم تطور العلم وتقدم الإعجاز فاكتشف علماء الفلك أن هناك نجوماً ذهبت من أماكنها، أرسلها الله، سرعتها كسرعة الضوء أو أكثر ولم ترتطم بالأرض إلى اليوم وبقيت مواقعها هناك فقال عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] ولم يقل الله فلا أقسم بالنجوم تعظيماً لمواقعها التي قدرها وشاءها ولا تخرج عن مسارها ومدارها ولا تتعدى ما حدد الله لها قيد أُنملة: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57].
روى البخاري بسنده إلى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ [الطور:35-37] لما سمع جبير بن مطعم هذه الآية قال: كاد قلبي أن يطير) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به.
وجبير قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسارى، وكان جبير إذ ذاك مشركاً، فلما سمع هذه الآية كانت سبباً من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام، وقد ذكره ابن كثير أيضاً.
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27] لو كل شجرة على وجه الأرض، لو كل شجرة تراها في طريقك في الغابات في أنحاء الدنيا، لو أن كل شجرة أقلام، ولو أن كل بحر حبراً فأخذنا نكتب بهذه الأقلام من مداد هذه البحار لنصف ولنحيط قدرته وعظمته وما يليق به لانتهت هذه الأقلام ولجفت هذه البحار ولم نبلغ شيئاً من بيان عظمة الله وعزته وقدرته وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].
نعم أيها الأحبة: إننا لا نحصي ثناءً على الله ولا نحصي على الله أسمائه الحسنى، ولا نحصي على الله صفاته العلا، إنا نقول: اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وما علمنا هو قليل من كثير وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
إذا أدركنا هذا -أيها الأحبة- زدنا يقيناً وشعوراً بأننا خلق حقير في مقابل عظمة مطلقة لا متناهية، وهي عظمة الله عز وجل، فأنى لعبد أن يصارع أو يكابر أو يدابر، أو يتكبر أو يصعر أو يتجبر ليعرض عن طاعة الله عز وجل.
عجباً لنا معاشر الخلق من أي شيء خلقنا وما الذي نحمله في أجوافنا؟ أليست أعيننا تحمل القذى؟ أليست أنوفنا تحمل المخاط؟ أليست آذاننا تحمل ما تعلمون؟ أليس في أجوافنا البول والغائط؟ أليس في مغابننا من الروائح ما يجل المسجد عن ذكره ووصفه؟ عجباً لنا وقد خلقنا من ماء مهين فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:5-7] .. أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:20-23].
أنى لهذا الإنسان الضعيف المسكين الذي هو من أصل مهين أن يتجبر أو يعرض عن طاعة الله، إن حق كل عبد من عباد الله، والواجب عليه أن يعرف مقدار ذله وحقارته وصغره أمام عظمة الله عز وجل المطلقة التي لا يحدها حد أبداً؛ ومن أدرك ذلك فإن هذا من أعظم أبواب الإقبال على الله عز وجل، أن تعلم أنك إن أطعت فإنما تطيع من يستحق الطاعة، وإن عبدت فإنما تعبد من يستحق العبادة وحده لا شريك له، وإن أذنبت فليس بحقيق لك ولا يجوز لك أن تصر على الذنب وأن تمعن في المعصية، بل واجبك أن تنكسر وأن تفر من الله إلى الله، وأن تهرب من سخط الله إلى رحمة الله، ترجو حلمه وستره ومغفرته.
نعم أيها الأحبة: من أدرك هذا فإنه يزيده بربه إيماناً، ويزيده لخالقه طاعة وانقياداً لوجهه سبحانه، أوليس الله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه الإمام مسلم.
نعم أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نتفكر ونتدبر كم من الناس ركب سيارة فخمة فنسي أنه خلق من ماء مهين، وكم من الناس مدح بقصيدة فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس نسب إلى قبيلة وإلى شرف وحسب ونسب فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس علق من الرتب ومن النياشين فنسي أنه من ماء مهين، وكم من الناس جمع من الأموال والأرصدة فنسي أنه من ماء مهين يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8] .. يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
وينبغي -أيها الأحبة- أن نتعود التضرع إلى الله، وأن نتعود الشكوى إلى الله، وأن نتعود اللجوء إلى الله، وأن نتلذذ بأن الواحد يرمي بنفسه من طول قيامه ليكون في حالة السجود، ويمرغ أشرف ما في جسمه وهي جبهته على التراب ذلة لله عز وجل، وأنت لا تقبل أن أحداً يضربك على ناصيتك وهامتك ولو بلمسة فيها أدنى ذلة، لكنك أنت تختار أن تذل وتنحط وتنكسر وتنحني من علو وقوفك إلى قمة ذلتك حال سجودك، لمن؟
لوجه الله عز وجل.
ولا ترضى أن تركع لغيره، ولا ترضى أن تنحني لغيره، ولا ترضى أن تسجد لغيره، بل قد يوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تخصع لغير الله، ويوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تسجد لغير الله، ويوضع السيف على الرقبة فتأبى أن تنحط خاضعاً منكسراً ذليلاً لغير الله عز وجل.
هكذا الانكسار، وهكذا الانقياد، وهكذا المناجاة في حال السجود، أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) .
ينبغي أن نستشعر الذلة لله عز وجل، وأن نستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، ما أحلاها من هيئة، ما أجملها من صورة، ما أطيبها من صفة أن تسجد منحطاً ذليلاً منكسراً لعظمة الله، لجبروت الله، لوجه الله، لملكوت الله، وكأنك حلس بالٍ، كأنك جلد قد سلخ ورمي، وأنت منكسر لله عز وجل على هذه الحالة التي أنت تجد قمة اللذة في نهاية الذلة في تمام الانكسار لوجه الله عز وجل، وأنت ونحن فقراء إلى الله.
يا رب أنت المستعان وإننا>>>>>أبداً لفضلك عالة فقراء
نرجوك في كل الأمور وما لنا>>>>>في غير منك يا كريم رجاء
أنت الغني وما لجودك منتهـى>>>>>بيديك سر الخلق والأحياء
لولاك ما كنا ولا كانت لنـا>>>>>دنيا ولا عمرت بنا أرجاء
لولاك ما خفقت جوانحنـا ولا>>>>>رعشت بآيات الهدى أضواء
ما اهتز غصن أو ترنم شـاعر>>>>>أو كحلت عين الوجود ذكاء
أو سال قطر أو ترقرق جدول>>>>>وتلألأت في الروضة الأنداء
لولاك ما كشف الحقيقة عـالم>>>>>أو كان في دنيا الورى حكماء
ما حلقت عبر الفضاء سفينـة>>>>>أو أرسلت ضوء النجوم سماء
أبدعت هذا الكون من عدم وفي>>>>>يدك التصرف فيه كيف تشاء
ما كان أو سيكون أو هو كائن>>>>>يفنى وليس لما سواك بقاء
إن كنت في عرض البحار فعربدت>>>>>هوج الرياح وأرعدت أنواء
أو طرت في رحب الفضاء فخانني>>>>>حظ وأوشك أن يحين قضاء
أو شفني هم ينوء بحمله>>>>>ظهري وراشت سهمها الأرزاء
أو كنت مقطوع الأواصر نائياً>>>>>فلمن يكون تضرع ودعاء
ولمن تخر جباهنا وقلوبنا>>>>>حتى تزول بعونه البأساء
يا رب أنت المستعان وإننا>>>>>أبداً إليك جميعنا فقراء
من كان في حفظ الإله وحرزه>>>>>ذلت له العقبات والأعباء
أنا إن ضللت فمنك نور هدايتي>>>>>وإذا مرضت ففي رضاك شفاء
وإذا عطشت فمن نعيمك أستقي>>>>>أو جعت كان بما رزقت غناء
وإذا عريت فأنت وحدك ساتري>>>>>وجميل عفوك جنة ورداء
وإذا تنكبت الطريق رجعت في>>>>>ندم إليك ففي حماك نجاء
وسعت مكارمك العباد برحمة>>>>>وتتابعت من فيضك الآلاء
يا رب خيرك للبرية نازل>>>>>وإليك يصعد منهم الإيذاء
يا رب حلمك لم يدع لمقصـر>>>>>عذراً فهلا يرعوي السفهاء
لو كان ربك بالعقاب معجلاً>>>>>لأتى على هذي القرون عفاء
عجباً أيأنف أن يمرغ هامة>>>>>لله قوم ضلالة تعساء
لكأنها تلك القلوب جلامد>>>>>وكأنما آذانهم صماء
وإلى متى هذا الكنود تجـردي>>>>>وتعبدي لله يا أهواء
اللهم إنا نرجو بتوحيدك، ونرجو برحمتك، ونرجو بمنك وجودك وكرمك أن تستر عيوبنا وأن تغفر به ذنوبنا، وأن ترفع درجاتنا، وأن تمحو زلاتنا، وأن تكفر خطايانا وسيئاتنا.
ترى أقواماً يجعلون بينهم وبين الله واسطة، وترون وتبصرون وتسمعون أقواماً بعضهم يذهب للكهنة يظنون أنهم يعلمون من غيب الله الذي لا يعلمه أحد، قال سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] تعجب من أقوام يذهبون إلى السحرة والمشعوذين والدجالين والبطلة والممخرقين يريدون منهم حروزاً وتمائم وزناراً يعلقونه على عضدهم وفي رقابهم وعلى بطونهم يقولون: تدفع الضر والبلاء والعين، أيحتاج عبد إلى أحد وهو مرتبط متعلق بالله عز وجل، إن هذا هو الخسران المبين، وهذا هو الضلال المبين، أن ينقطع العبد من التعلق بالله ليتعلق بساحر وأن يصدق كاهناً في غيب ليتردد فيما أخبر الله به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليعرض عن هدي الله ووحيه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعمل بنظريات وتجارب وأفكار وآراء عفا عليها الزمن. وإن زينوها وزخرفوها:
في زخرف القول تزيين لباطله>>>>>والحق قد يعتريه سوء تعبير
عجباً لهؤلاء الذين يجهلون أو يتجاهلون عظمة الله، وأعجب من هذا عبد يعلم أن الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، ثم يلجأ إلى غير الله في كشف كربة، أو دفع ضر، أو جلب نفع، أو شفاء سقم، أو دفع بلاء ونقمة، يا سبحان الله! إن أمر التوحيد عظيم ومن حقق التوحيد أدرك عظمة الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا، واسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، اللهم إنا نسألك ونحن نحمدك بكل ما يليق بك، وبكل ما يرضيك، وبكل ما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، نسألك اللهم ألا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا مثقلاً إلا هونته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واختم اللهم بالشهادة والسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، واهدنا واهد بنا، واسترنا ولا تفضحنا، وثبتا وتوفنا على أحسن حال ترضيك يا رب العالمين!
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، ومتعهم بالصحة والعافية من كان منهم حياً، ومن كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً يا رب العالمين!
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله.
وبعــد:
إن مقتضى الإيمان والعلم والإدراك لعظمة الله عز وجل هي أن ينقاد العبد لله سبحانه وتعالى، وأن يسلم سمعه وبصره وفؤاده وحواسه وجوارحه لله عز وجل، وأن يتعود الانقياد والإذعان والتسليم والاستجابه والمبادرة السريعة الكاملة لأمر الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] .. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51] هكذا شأن المؤمن الذي يعلم عظمة ربه.
إن الناس إذا هددوا بعظيم أو وعدوا بعظيم إما أن يستجيبوا وإما أن ينزجروا، فالمجرم إذا هدد بعظيم في مكانته أو سطوته أو سلطته أو رتبته، ثم رأى أن ما هدد به من صفة وشخص هذا العظيم، بات أمراً ماثلاً للعيان استسلم وانقاد وتعهد أن لا يعود؛ لأنه علم أنه يهدد بمن له نوع من صفة القوة اللائقة بحجم البشر، وهو بشر مثله ينقاد له، أفلا ننقاد للعظيم الجبار عز وجل؟!
وإن الإنسان إذا وعد من قبل من له حظ من مال أو حطام الدنيا وقيل فلان بن فلان سيعطيك قلت: الآن ارتحت لأن فلاناً وعد وهو غني يملك، فهل تثق بما عند الله وبوعد الله وبعطاء الله وتطمئن لجزيل خلف الله عز وجل وما وعدك الله سبحانه وتعالى.
إن الحديث عن عظمة الله في علمه تقودك ألا يراك الله على معصية، وإن الحديث عن عظمة الله في سمعه تقودك ألا تنبس ببنت شفة في معصية، وإن الحديث في عظمة الله في حلمه أن تستحي من الله عز وجل وأنت تتبع الذنب الذنب وتخطئ الخطأ الجم، ولا ترعوي ولا تنتبه ولا تلتفت، وواجبك إذا أذنبت أن تبادر منكسراً ذليلاً خائفاً باذلاً للحسنات الماحية للسيئات، وإن علمك بقدرة الله تجعلك ضابطاً متحكماً في قدرتك ألا تبطش بها على أحد وألا يغرك حسبك أو نسبك أو رتبتك أو جاهك أو مكانتك.
وإن علمك بعظمة الله سبحانه وتعالى في علمه تدعوك ألا تتساهل بعمل يحصى عليك: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] ثم يجتمع فتجد الصحائف في سجلات أعمالك قد سودتها الخطايا والذنوب، هذه هي فائدة الحديث في العظمة، أن تسبح الله وأن تذكره وأن تشكره وأن تطيعه وأن تثني عليه الخير كله، ثم بعد ذلك تنقاد لأمره سبحانه وتعالى وتنزجر وترعوي وتكف وتقلع فوراً عن الإصرار على معصيته سبحانه، أن تثني عليه الخير أيضاً.
إن الناس إذا جلسوا مجلساً وفيه لواء وفريق ونقيب وجندي فجاء صاحب الدار يثني على هذا الجندي ويجعله في أعلى الرتب وينسى هذه الرتب الكبيرة، هذا في المقياس العسكري، قالوا هذا جنون يثني على هذا العريف وهذا الجندي وهنا تاج ومقص ونجمتان وثلاث وغير ذلك ولا يلتفت لها، ما يعرف مقادير الناس ومنازلهم، وهم بشر كالبشر لا يتخلف بعضهم عن بعض في جوارحهم وحواسهم، فما بالك بمن يثني خيره على غير الله، ويثني الشكر على غير الله، ويثنّي الفضل والحمد لغير الله، والله المنعم المتفضل عليك وعلى من حمدته، وعليك وعلى من شكرته، وعليك وعلى من أزجيت له المديح أو الثناء.
إن الحديث عن عظمة الله تجعل الفرد يتأدب مع الله سبحانه وتعالى ويعرف قدر الله، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب معه سبحانه لكي نذكره حق ذكره، ولكي نشكره حق شكره، ولكي نقوم بما يرضيه، وإنا وايم الله لعاجزون ولكن رحمة الله التي سبقت غضبه، ورحمة الله التي وسعت كل شيء هي رجاؤنا وهي أملنا وهي متعلقنا أن تستر خلاتنا وزلاتنا وترفع درجاتنا، وتمحو سيئاتنا، وتضاعف حسناتنا، ذلك ما نرجوه أيها الأحبة.
الجواب: مسألة الوصول إلى القمر: هب أنني قلت لك الآن إنهم لم يصلوا، هل تغيرت فروض الوضوء؟ هل اختلفت أركان الصلاة؟ هل زادت شروط الطهارة؟ هل تغيرت أحكام الدين؟!
وهب أني قلت لك إنهم وصلوا، وكثير من الناس أصبحت قضية وصول القمر عنده محل جدل، والله يا أخي إن كنت آمنت واقتنعت بأدلة تفضي إلى الوصول إلى القمر فقل، هناك من يقول إن سلطان العلم هو الوصول يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] قيل هو سلطان العلم، وما دام العلم بلغ إلى ذلك فيسلم بذلك، وآخر قال: لا. ما وصلوا القمر.
فأنا أقول: لن أكون عدواً لهذا ولا عدواً لهذا الذي قال بالوصول إلى القمر أو نفى الوصول إلى القمر؛ لأنه لا لك مخطط ولا لك قطعة أرض في القمر، ولا أمل أن تحصل على أرض في القمر من الآن، اعرفها تماماً، والمسألة لا ينبني لك فيها قليل ولا كثير، أهم شيء أن تقول آمنت بكلام الله وبمقتضى كلام الله، إن كان مقتضى كلام الله الوصول إلى القمر فأنا مؤمن بالوصول إليه، وإن كان مقتضى كلام الله عدم الوصول إلى القمر فأنا مؤمن بعدم الوصول إليه.
مثلما يقول الشيخ ابن عثيمين في شرح القواعد والأصول الجليلة في مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، قال: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات يقوم على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أن تثبت ما أثبته الله وأثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أثبته الله لنفسه وأثبته الرسول لربه تثبته والله أمرنا وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].
المسألة الثانية: أن تنفي ما نفاه الله ونفاه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن الله.
المسألة الثالثة: وأما ما لم يرد فيه نفي ولا إثبات فأنت تتوقف في لفظه وتفصل في معناه، فأما تفصيل المعنى فتقول: إن كان هذا الكلام يدل معناه على أمر يليق بالله وبعظمة الله وجلال الله آمنت به، وإن كان هذا الكلام يتضمن نقصاً ينزه الله عنه فأنا أنفيه وأنزه الله عنه.
وأنا أقول بمثل ذلك، إن كان القول بالوصول إلى القمر يوافق مقتضى ما أراده الله وشرعه وما يليق بكلام الله عز وجل فإنا نؤمن به، وإن كان لا يوافق ولا يمكن أن يقبل، وهذا اجتهاد البشر وأنه لا يمكن أن يسلم بأن سلطان العلم هو السلطان الذي ينفذ من خلاله إلى أقطار السماء لبلوغ القمر أي: أن هذا أمر مستحيل فنقول: اللهم آمنا بك وبما جاء عنك وعن رسولك على مراد رسولك صلى الله عليه وسلم.
أما أن تشغل نفسك بوصلوا وما وصلوا، يا أخي ما ينبني على هذا كثير علم، ونحن أمة دائماً أفكارنا هامشية، وليست في الممكن الذي يمكن أن نحققه ويمكن أن ننافس فيه، ويمكن أن نتحدى به ويمكن أن نغزو به الأمم، لا. إنما تجد الكثير من الناس يتكلم فيما يعتبر أو يعد من باب: علم لا ينفع أو جهل لا يضر.
أنا لا أقول: إننا نقعد ولا نواكب الأمم والحضارات فيما وصلت إليه وسبقت إليه، لأن هناك من يقول قضية الوصول إلى القمر هي حرب نفسيه وهي من باب التحدي، ومن باب إغراق المسلمين في الهزيمة النفسية، وإننا نحن الغرب وصلنا القمر وأنتم حتى الآن ما صنعتم سيارة، وما صنعتم دبابة فضلاً عن صناعة طائرة، والحقيقة أنهم ما وصلوا إلى القمر، هذه وجهة نظر من يقول ذلك، وهناك من كذب هذه النظرية من الكفار وآخرين قال: بل وصلنا إلى القمر، ومشينا على القمر، وحصل ما حصل إلى آخره فنقول: هذه مسألة لا ينبني عليها أمر في الدين ولا حكم في الشرع، اللهم إلا فيما تعلق بما جاء في كلام الله عز وجل.
فخروجاً من الخلاف واحتياطاً للدين وإبراءً للذمة تقول: اللهم إن كان مقتضى هذه الآية الوصول فإني أؤمن به، وإن كان مقتضى الآية عدم الوصول فإني كافر به وانتهت المسألة، لا تشغل نفسك بقضايا ما ينبني عليها حكم عملي تفصيلي تكليفي في الشريعة.
بعض الناس يشغل نفسه .. ما العصا التي أخذها موسى، ومن أي شجرة هي؟ من أي شجرة هذه العصا التي اهتزت وأصبحت حية تسعى فصارت تلقف ما يأفكون، أو: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، قال أي هذه الطيور، ما أسماؤها أوز نعام دجاج حمام، ماذا ينبني في مثل هذه المسائل؟
لون كلب أهل الكهف .. أسود أبيض أحمر أزرق أخضر، ماذا ينبني عليه؟
أي أن هناك مسائل تجد من المسلمين من يغرق نفسه ووقته وهي لا ينبني عليها مزيد أحكام في الدين فلا تشغل نفسك بها.
الجواب: هذا قد يكون من باب الوسوسة، فإن الشيطان يعمد إلى أحدكم -كما جاء في الحديث- من خلق كذا ومن خلق كذا ومن خلق كذا ثم يقول: من خلق الله، وقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوسة الشيطان وتسلطه فقالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليكون الأمر في نفسه مما يود أن يلقي بنفسه من شواهق الجبال ولا يتلفظ به، فقال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم ذلك، ذلك عين الإيمان، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
وأضرب مثالاً بسيطاً جداً: تصور أنك تعيش في قصر محكم منيف وعليه أسوار وأبراج وحراسات محترمة ولا يستطيع أحد يقترب منه، ثم جاء عدو من الأعداء يريد أن ينال منك، فلما دنا منك وجدك محصناً في هذه الأبراج العالية والقصور المشيدة وأخذ حصاة صغيرة ثم رمى سور قصرك، هل يضرك شيء، هذا دليل على ضعف هذا الذي جاء يريد أن ينال منك شيئاً، فوجدك محصناً ثم لم يجد إلا أن يأخذ حصاة صغيرة ويخذفك أو يرميك بها، تضحك وتقول: الحمد لله الذي جعل هذا العدو لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أن يأخذ قطعة صغيرة من الحجر أو الحصى فيرمي بها على هذا السور الذي بيني وبين السور من الأسوار إلى آخره والأماكن والمجالس والضِياع الكثير ولا يمكن أن يصلني شره.
فكذلك الشيطان إذا جاء إلى مؤمن ووجده متمكناً بالإيمان بوحدانية الله وربوبيته، وألهويته وأسمائه وصفاته، متمكناً في الإذعان والتسليم والانقياد لله عز وجل، جاءه الشيطان يرجمه .. من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول له من خلق الله.
والدليل على أن كيد الشيطان ضعيف أن القضية ما تحتاج أنك تأتي برشاش قال صلى الله عليه وسلم: (فليتفل أحدكم عن يساره، وليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ويتفل في كل مرة، يعني تصور عدو تدفعه بنفثة، مع قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نعم هي نفثة يسيرة دليل على ضعفه وضعف كيده ووسوسته إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76] وفيها معنى آخر هي قوة اسم الله؛ لأنك لو قلت أعوذ بفلان أو بعلان من الشيطان لتسلط الشيطان عليك زيادة، ولكن لما قلت أعوذ بالله كانت استعاذتك بالله دفعاً لشر الشيطان وإحراقاً له، فهذا معنى ينبغي أن يُطْمَئن إليه، كل ما عليك إذا وسوس لك الشيطان تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، إذا خشيت أن يدخل عليك الشيطان من باب شرك خفي ونحوه، وإذا جاء يوسوس لك في مثل هذه الأمور فاتفل عن يسارك واستعذ بالله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] الاستعاذة مع اليقين التام تطرده بإذن الله.
وثق أن الشيطان لو استطاع أن يجد منك شيئاً لجرك بأم رأسك إلى منتهى الكفر والضلال والإلحاد والجرائم والفواحش، لكن الشيطان لما جاء ووجدك متمكناً في حصن عظيم ما وجد إلا كما يجد ذاك الذي جاء إليك يريد أن يهاجمك فأخذ حجرة ورجم بها سور بيتك، أو سور قصرك فلا يضرك شيئاً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عظمة الخالق للشيخ : سعد البريك
https://audio.islamweb.net